إن «التجديد» وضرورته للمسلمين فى كل زمان ومكان لم يعد أمرًا قابلًا للأخذ والرد؛ فهو حقيقة شديدة الوضوح فى الإسلام –نصا، وشريعة، وتاريخًا– وربما تفرد القرآن الكريم من بين سائر الكتب السماوية بالإشارة إليه، وألهمت إشاراته علماء المسلمين من المتكلمين والفلاسفة، وأمدتهم بأنظار فلسفية جديدة لم يسبقوا إليها من قبل، فأئمة الفقه والأصول –منذ عهد الصحابة– مارسوا الاجتهاد فى تجديد أحكام الشريعة كلما مست حاجة التجديد إلى ذلك. والتجديد خاصة لازمة من خواص دين الإسلام، نَبَّهَ عليها النبى – فى قوله الشريف: «إنَّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَن يُجدِّدُ لها دينَها»، وهذا هو دليل النقل على وجوب التجديد فى الدين، أما دليل العقل: فهو أننا إذا سلمنا أن رسالة الإسلام رسالةٌ عامةٌ للناس جميعًا، وأنها باقية وصالحة لكل زمان ومكان، وأن النصوص محدودة والحادثات لا محدودة؛ فبالضرورة لا مفر لك من إقرار فرضية التجديد آلة محتمة لاستكشاف حكم الله فى هذه الحوادث.
والتجديد الذى ننتظره ينبغى أن يسير فى خطين متوازيين: خط ينطلق فيه من القرآن والسنة، وبشكل أساسي، ثم يتناسب ومفاهيم العصر من كنوز التراث بعد ذلك، وليس المطلوب خطابًا شموليا لا تتعدد فيه الآراء ولا وجهات النظر؛ فمثل هذا الخطاب لم يعرفه الإسلام فى أى عصر من عصور الازدهار أو الضعف، وإنما المطلوب خطاب خالٍ من الصراع ونفى الآخر واحتكار الحقيقة فى مذهب، ومصادرتها عن مذهب آخر مماثل، أما الخط الآخر فإنه خط موازٍ ننفتح فيه على الآخرين؛ بهدف استكشاف عناصر التقاء يمكن توظيفها فى تشكيل إطار ثقافى عام يتصالح فيه الجميع، ويبحثون فيه –معًا– عن صيغة وسطى للتغلب على المرض المزمن الذى يستنزف طاقة أى تجديد واعد، ويقف لنجاحه بالمرصاد. وأعنى به: الانقسام التقليدى إزاء «التراث والحداثة» إلي: تيارٍ متشبث بالتراث كما هو – وتيارٍ متغرب يدير ظهره للتراث – وتيارٍ إصلاحى خافت الصوت لا يكاد يبين.