بين احضان ام عباس الندابة وابنها عباس -الذين كانوا يستغلون والدة أديبنا الكبير- وجدته ام عبد الغنى نشأ الاديب المبدع الراحل عبد الحميد جودة السحار منذ ولادته فى القاهرة فى 25 أبريل 1913 فى حارة بحر وشارع الجراية ، ونحن نحتفى اليوم بمرور ١١١عاما على ميلاد الأديب الراحل، فالسحار هو نتاج الحارة المصرية بكل ما فيها، وصنيعة فترة طفولته الغنية التى عاشها، فولّدت فيه حب الحكاية وجعلت منه كاتبا مبدعا، وقد ابدع السحار فى كتابة وتوثيق تجربته مع الكتابة فى كثير من أعماله وكان أهمها كتاب سيرته الذاتية المعنون «هذه حياتي» وقد اعتمدنا عليه كثيرا وكان المصدر الأساسى لسرد الكثير عن الأديب الكبير، فقد روى فى معظم صفحات الكتاب عن طفولته، فهو يرى أن هذه الفترة اختزلت حياته بأكملها، وكل ما عداها ظلال لها، وقد رسم فيها تفاصيل هذه الحياة الثرية التى عايشها فى حارة بحر، لنجد أن ثمة أشياء وأشخاصا وأماكن رئيسية شكّلته وتشكّل معها، فكانوا نبع قصصه المتدفق وزاد قلمه الغزير فى السينما والقصص الديني، وهم: جدته وأم عباس الندابة، ودكان والده، وسلاملك البيت -الذى ظل اجتماع الاسرة فيه مكمنا من مكامن السرد والحكايات عند السحار-، وسينما إيديال، ولجنة النشر للجامعيين، ووظيفته كمترجم درجة ثامنة. . فى سياق السطور التالية نعيش مع الاشخاص والاماكن والاحداث المؤثرة فى حياة الكاتب الكبير عبد الحميد جودة السحار
عبد الحميد جودة
X نقاط
< ولد فى القاهرة يوم 25 أبريل 1913
< حصل على بكالوريوس تجارة من جامعة فؤاد الأول عام 1937
< بدأ حياته الأدبية بكتابة القصة القصيرة من خلال مجلتين هما : «الرسالة» التى كان يصدرها أحمد حسن الزيات، و«الثقافة» التى كان يصدرها أحمد أمين
< اتجه إلى كتابة القصص التاريخية فكتب قصته الأولى «أحمس بطل الاستقلال» عام 1943 ثم كتب روايته التاريخية الثانية «أميرة قرطبة»
< اتجه إلى كتابة الإسلاميات مثل كتب أبو ذر الغفاري، بلال مؤذن الرسول، سعد بن أبى وقاص، أبناء أبو بكر، محمد رسول الله والذين معه الذى صدر فى 20 جزءاً
< «درب المهابيل» أول فيلم كتبه وأنتجه للسينما عام 1955م، وشاركه فى كتابة السيناريو والحوار كل من نجيب محفوظ ومخرجه توفيق صالح.
< قدم للسينما روايات إسلامية منها «نور الإسلام» الذى كتب له السيناريو والحوار بالاشتراك مع صلاح أبوسيف مخرج الفيلم كما شارك فى سيناريو فيلم الرسالة بالاشتراك مع توفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي
< ساهم بشكل فعال فى ثورة يوليو
< ساهم فى عمل نشيد «القوات الجوية» ونشيد «للقوات البحرية»
< عمل فيلمين سينمائيين هما «شياطين الجو وعمالقة البحار».
< كتب سعد بن أبى وقاص، همزات الشياطين، أبناء أبى بكر الصديق، المسيح عيسى بن مريم.
40 كتابا.. تلخص مسيرة السحار
لأديبنا الراحل عبد الحميد جودة السحار، خلال مسيرته الكبيرة ما يقرب من 40 كتابًا، متنوعا ما بين الرواية والقصة القصيرة والتاريخ الإسلامي، من أبرزها «أحمس بطل الاستقلال، أبو ذر الغفاري، بلال مؤذن الرسول، فى الوظيفة، سعد بن أبى وقاص، همزات الشياطين، أبناء أبى بكر الصديق، أميرة قرطبة، النقاب الأزرق، المسيح عيسى بن مريم، قصص من الكتب المقدسة، حياة الحسين، وكان مساء، صلح الحديبية، فتح مكة، غزوة تبوك، عام الوفود، حجة الوداع، وفاة الرسول.
الجدة أم عبدالغنى..
بطلة «قافلة الزمان»
تربى السحار على حكايات جدته لابيه الست أم عبدالغنى والتى كانت حكاءة من الدرجة الاولى تروى قصص الأسرة من الاجداد حتى الزمن الحاضر الذى تعيشه، ويروى عنها السحار فى كتابه «هذه حياتي» أنه لما دخل الراديو إلى البيت، كانت جدته تراه من عمل الشياطين، وذكر انه فى إحدى الليالى عندما قال المذيع تستمعون إلى عبد الغنى السيد، قالت لهم فى دهشة واستغراب: «مين بيقولى على اسمي؟ ده بيقولى يا ست أم عبدالغنى إزيك؟».
كانت حكايات الجدة مصدرا لقصص السحار العصرية كما يسميها، فقد اختار السحار شخصيات روايته «فى قافلة الزمان» من أفراد أسرته، ولجدته الفضل فى لم شمل الأسرة المترامية الأطراف، فقد كان يقضى الأمسيات معها يُصغى إلى أحاديثها عن جده وجد أبيه وأعمامه وأعمام أبيه، ففى رواية «فى قافلة الزمان» لا يروى عبدالحميد جودة السحار قصة إنما سرد حياة قبيلة كاملة، وقد صور جدته فى شخصية نفيسة إحدى بطلات الرواية بكل طباعها، يفزعها ذبح دجاجة، ويقض مضجعها بكاء طفل، ويؤذيها إيذاء حيوان.
السحار والقصص التاريخى
اعتقد السحار فى مقولة سابقة لأستاذ الأدب الإنجليزى هـ. ب. تشارلتن فى كتابه «فنون الأدب»، التى تقول: «الإنسان روحان فى إهاب واحد، يحب ما يدنو من قلبه وما تألفه عيناه وأذناه، فهو أسير الواقع الذى يحياه، وفى الوقت نفسه يحن إلى البعيد النائى الساحر بخياله، فيرغب فى نشوة الوهم والخيال»، فكان كلما كتب قصة واقعية غمره الحنين للعيش فى الخيال، فيذهب إلى صفحات التاريخ ليسمو به عن الواقع، فكتب «أميرة قرطبة» وكتب بعدها «قلعة الأبطال» التى تصور أحداثها الصراع بين عرابى والخديو توفيق، لم يغير السحار فى قصصه التاريخى فى الأحداث التاريخية، وإنما حاول أن يدب الحياة فى النصوص التاريخية، ولم يكتف بفترة تاريخية دون أخري، أو أحداث التاريخ البارزة، ففى «طابية صالح» تناول غزو البريطانيين للإسكندرية التى لم يشر إليها مؤرخ عربى واحد، وبالطبع «أحمس بطل الاستقلال» أول أعماله الروائية التى لم تنل كثيرا من رضاه عن إخراجها الفنى والأدبي.
السلاملك.. ملتقى الأدب والحكى
فى جلسات السلاملك تفتحت موهبة عبد الحميد جودة السحار الحقيقية فقد كانت ملتقى للقراءة الادب والحكى والسيرة، فقد نشأ السحار فى بيت من التجار يخرجون فى الصباح ويغلقون محالهم مع أذان المغرب ثم يقضون أوقاتهم فى سلاملك البيت، يقرأون أيام طه حسين والمنفلوطى وعلى هامش السيرة، وهو يستمع فأحب القراءة والأدب.
كانت جل أحاديثهم تدور حول الفن والغناء والسينما والقرّاء والمشايخ وأخبار الحارة، فيتناقشون حول عبده الحامولى وألمظ، وتحليل صوت منيرة المهدية، ويحتدم الصراع حتى يسمعوا الست أم كلثوم، فيسود الصمت وتتمايل الرؤوس فى نشوة، فعمه هذا يهز طربوشه مع الألحان، والآخر يرجع رأسه للخلف مستغرقا فى فكره، ويصبح الجميع فى حالة من الوجد والهيام، وعادة ما تتبادل الأخبار وأحوال الجيران فى هذا المكان، فاستلهم السحار قصصه من هذه الأخبار، فكانت أول أقصوصة منشورة له مأخوذة عن أحد جيرانه بعنوان ساخر «رجل البيت»، تحكى عن سيدة متحكمة متسلطة تتحكم فى إدارة البيت بينما زوجها ضعيف لا يقوى على صدها.. ايضا فى هذا السلاملك كان السحار على موعد مع صوت الشيخ محمد رفعت لأول مرة، فى إحدى ليالى رمضان، ومازال صدى تلاوة سورة يس تُتلى فى هذا البيت حاضرا فى ذاكرته، وكذلك القصص الدينى وكتب مثل فتوح الشام للواقدى الذى رآه السحار قاصا بارعا، ولكنه كان يضيق منذ الصغر بكثرة العنعنة فى كتب السيرة، فتمنى لو كتبها دون عنعنات بأسلوب أكثر سلاسة وتبسيطا، وبدأ هذا المشروع وأنجز كثيرا من قصص الصحابة والأنبياء وكتب السيرة فى 20 جزءاً بعنوان «محمد رسول الله».
عباس وأمه الندابة
تلك حكاية تكوين جديدة لأديبنا الكبير فقد اثر عباس ووالدته أم عباس الندابة التى تعيش على مصائب الناس، وتسترزق من صوت عويلها الأجش، دائمة الاتشاح بالسواد، لم تكن مجرد شخصية عابرة فى حياة عبد الحميد جودة السحار، فقد أثّرت فى إدراكه المبكر لحقيقة الموت وتكوين الحس الدينى فى شخصه، ومشاهدته لعوالم الحارة المختلفة. يذكر السحار أول لقاء بينه وبينها حينما كان طفلا صغيرا يدفعه فضوله للخروج من البيت من وراء أمه التى لم تكن تسمح له بحرية التجوال فى الحارة، ثم صادف بيت أم عباس وابنها فدخله ووجدهم يأكلون فجاورهم، فلما انتهوا من الطعام مسحوا أيديهم فى ثيابه، وحينما أعادته أم عباس لأمه، ظنت أنه شاركهم الطعام، فأصرّت أن ترد إليها هذا الواجب، فأصبحت ترسل إليها صحاف الطعام الذى يتناولونه فى كل مرة يذهب السحار إلى بيتهم، وتكافئها مما يخرج من فرنهم من طعام وجبة العشاء. فوجدت أم عباس فيه مصدرا للخير، ووجد عبد الحميد فى ذراع ابنها عباس جناحين لرؤية العالم خارج البيت.. فقد كان عباس ابنها يحمله على كتفيه ويجوب به الشوارع والحوارى والأزقة للبحث عن حالة وفاة لأمه لكى تتكسب، ويذكر أن أم عباس كانت توزع فناجين القهوة على الجيران احتفاء بوجود حالة وفاة لأحد الأثرياء كالاحتفال الذى أقامته حينما عثر عباس على حالة لشاب يهودى إفرنجي، ويحكى السحار أن أم عباس كانت تناديه بزوجى العزيز، وكانت تطلب منه اشياء يجلبها من بيتهم حتى إنه كان يأتى لها بالسكر والتموين؛ حتى عرفت أمه فانقطعت صلته بها، ولم تنقطع صلته بالحارة وعوالمها التى أصبحت هى مادة أعماله الأدبية.
الوظيفة.. تقوده للأدب
كان السحار هو أول موظف فى عائلته، قد خطط لدخول الشرطة، ولكنه لم يتمكن من ذلك، فدخل كلية التجارة جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) فى 1937، وحينما تخرج توفى والده فلم يستطع بناء مشروعه الخاص، وتوظف فى سلاح الطيران مترجما فى الدرجة الثامنة، كانت بيئة جديدة ومختلفة عليه، فقد اعتبر الموظفين أناسا غير حقيقيين من غرابة سلوكياتهم وطبيعة تصرفاتهم. ساعدته هذه البيئة فى كتابة عمله القصصى «فى الوظيفة»، وهى مجموعة قصص قصيرة تدور حول الموظفين، كتبها على مكتبه فى سلاح الطيران، فكان يتأمل ويلاحظ ما حوله وينفعل بما حوله فيدوّنه كأقصوصة فى جلسة واحدة.. كما أفادته الوظيفة فى كتابة الأدب، لاعتياده العمل الروتينى وتنظيم المواعيد، فقد دأب على مواصلة الكتابة يوميا بصورة منتظمة من الخامسة حتى الثامنة صباحا قبل ذهابه للعمل، فكان صديقه الكاتب صلاح ذهنى الذى عمل سكرتيرا لمجلة «آخر ساعة» يعطيه أجرا ضئيلا للغاية على كتاباته لغزارتها.
«أم العروسة»
.. ينقل تحية كاريوكا
وعماد حمدى لمنطقة
مختلفة فى التمثيل
عماد يسرى – ناقد فني
حالة خاصة تلك الشخصيات التى صاغها عبد الحميد جودة السحار فى رواياته واعماله القصصية فقد وصل نجاحه الى انه كتب لنا شخصيات خالدة لا نستطيع نسيانها خاصة عندما تتحول تلك الشخصيات إلى لحم ودم على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، فالقاص الناجح تظل شخوصه حية فى أذهاننا وتبقي، بينما تندثر شخصيات عظيمة كانت تملأ مسرح الحياة يوما.
فى مجال السينما قدم جوده السحار اعمالا مهمة كمنتج ومؤلف وسيناريست، وكان أول فيلم يكتبه وينتجه للسينما هو فيلم «درب المهابيل»، ثم كتب بعد ذلك العديد من الافلام منها «الحفيد» و«أم العروسة» و«الشارع الجديد»، وأنتج وكتب السيناريو لمجموعة من اهم الأفلام مثل «مراتى مدير عام» و«فجر الإسلام» و«ألمظ وعبده الحامولي»، كما شارك فى كتابة فيلم «الرسالة» للمخرج مصطفى العقاد مع توفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي. وكما تنوعت كتاباته بين القصة والرواية الاجتماعية والنصوص الإسلامية التى يغلب عليها الطابع السردى لتبسيط السيرة للقارئ، فقد تنوعت ايضا اعماله فى السينما فقدم أيضا روايات إسلامية للسينما منها «نور الإسلام» الذى كتب له السيناريو والحوار بالاشتراك مع صلاح أبو سيف مخرج الفيلم.
«سينما إيديال» عالم الخيال.. وترديد والدته على مسامعه «لن يتلف أملك سوى السينما»
دكان أبيه
كان دكان ابيه ذلك الرجل البسيط وتدينه الوسطى دافعا للسحار للاهتمام بالجانب الروحانى وكتابة القصص الديني، ولم تكن شخصية والده فقط المؤثرة فى تكوين عبدالحميد الأدبية، وإنما طبيعة عمل والده كصاحب دكان فى سوق الجراية، الذى يُعد متحفا للنماذج البشرية التى وردت بعض ملامحها فى رواياته العصرية، ومن هذه النماذج: الشيال الذى يجلس على الرصيف صامتا لا ينطق أكثر من ثلاث كلمات، يحمل لوازم البيت فإذا أخذ ما يسد رمقه لا يمكن إقناعه بفعل أى شيء آخر، وظل ماضيه غامضا، مثارا للحديث والخيال لكل من حوله، فيتعجبون هل ترك أبناءه فى الواحات وهرب، أم يمتلك شجيرات من النخيل؟ لا أحد يعرف، وهو لا يفعل سوى الصمت.
عبدالمجيد أفندى سند أبيه فى الدكان، فهو ذلك الشخص الراضى القانع بالرزق صاحب الخلق الحسن، الذى يقع على نقيضه أبو ركب الحمال سليط اللسان ذى القفا العارى المغرى بالصفح، وهناك الشيخ محمود السنى الجزار الشهير بأبو التوءم، فهو شيخ معمم ولكنه مهزار يؤذى غيره ولا يحترم العمامة، كانت جزارته تجاور دكان أبيه، وحين وفاته لم يحزن عليه أحد، فتعلم السحار حينئذ أن الناس حتى فى الموت لا يتساوون.