كان فتح مكة مؤذِنا بإظهار أخلاق الإسلام فى الحرب والسلم، حيث أرسى النبى صلى الله عليه وسلم قواعدَ الأخلاق فى هذا الفتح العظيم والنصر المبين وأظهرها للناس، ليعلموا أن الإسلام دين سلم وسلام، لا يعرف الدماء ولا يعشق الخراب، بل دين ينشر المحبة بين الناس سواء فى أوقات الحروب أم فى الأوقات العادية، فقد رأينا أخلاق العفو عند المقدرة، فبعدما نصر الله جنده وأعز عبده وأعلى كلمته على أعداء دينه ممن أخرجوا نبيه وأصحابه من ديارهم وآذوهم، فلم يتعامل معهم بالانتقام، ولم يفعل بهم ما فعلوا به وبأصحابه، فقد قال لهم حين اجتمعوا فى المسجد: «ما ترون أنى صانع بكم ؟» قالوا: خيرا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، كما عَلَمَّنا رسول الله إنزال الناس منازلهم، فأبو سفيان كان سيِّد قريشٍ، وقد جرت عادة الحروب أنه إذا هُزم قوم أن يذلَّ أسيادُهم، فلم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أعلن صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أن من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، وأقال أصحاب العثرات من خيار الناس ووجوههم، وأقر مبدأ الجوار، وعَظَمَّ المرأة، فحينما أجارت أم هانئ بنت أبى طالب أحد مشركى قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أجَرنا من أجرتِ يا أم هانئ»، كما تعلمنا من فتح مكة التواضعُ لله عز وجل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نصره الله على عدوه، ولكنه تصرف تصرف التواضعَ لله عز وجل، ودخل مطأطِئً رأسه عليه الصلاة والسلام، رافضا أن يكون دخوله دخولَ الجبابرة، وحينما قال البعض: إن اليوم يوم الملحمة.. رد عليه رسول الله قائلا : اليوم يوم المرحمة.
سبب الفتح
كان صلح الحديبية سبباً مباشراً فى فتح مكّة؛ فبعدما عاهد الرسول قريش على حرّية انحياز الأفراد والجماعات إلى الطرف المختار، والدخول فى دينه ومعتقده، ومن أراد الدخول فى حِلف الرسول «»صلّى الله عليه وسلّم»« فله ذلك، ومن أراد الدخول فى حِلف قريشٍ فلا حرج عليه، وأنّ أيّ اعتداءٍ على أيّ قبيلةٍ متحالفةٍ مع أحد الطرفين يُعتبر اعتداءً على الطرف نفسه، فانحازت بنو بكر إلى قريش، وانحازت بنو خزاعة إلى رسول الله «»صلّى الله عليه وسلّم»«، وفى العام الثامن للهجرة شهر شعبان دبّرت بنو بكر مع قريش مكيدة، وخطّطوا للتآمر على خزاعة؛ ظنّاً منهم بأنّ الأخبار لن تصل إلى الرسول فى المدينة، فأغاروا عليهم ليلاً بعد أن أمدّتهم قريش بالسلاح، وقتلوا منهم ثلاثةً وعشرين شخصاً، أغلبهم نساء وأطفال وشيوخ، وكان هذا الاعتداء انتهاكاً لبنود صلح الحديبية واعتداءً مباشراً على رسول الله «صلّى الله عليه وسلّم» وعلى المسلمين، وسارع عمرو بن سالم إلى رسول الله فى المدينة يُخبره بما حدث يَصف فيها الوضع الذى حصل لهم من القتل، ويذكِّره بالعهد معه، فأجابه رسول الله «صلّى الله عليه وسلم» قائلا: « نُصِرتَ يا عمرو بنَ سالمٍ».
الوضع السياسى والعسكرى
كانت قريش على علم بمكانة الرسول بعد صلح الحديبية، وأنّ قوة المسلمين ازدادت وصار لهم جيش قوى مُدرَّب، علاوة على أنّ الوضع السياسى للمسلمين صار قويّاً؛ فقد دخل أهل اليمن والبحرين فى الإسلام، كما أنّ علاقاتهم مع الحبشة ومصر ازدادت قوة، وبذلك ارتفع شأن المسلمين فى الجزيرة العربية، فى حين كان وضع قريش العسكرى والسياسى ضعيفاً مع فُقدانها لأهمّ فرسانها الذين تحوّلوا إلى معسكر الإسلام، مثل: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، وهم بذلك زادوا المسلمين قوة إلى قوّتهم.
مخاوف الأنصار
لما فتح النبى «صلى الله عليه وسلم» مكة فتحا مبينا، وهى بلده، وموطنه، ومولده، وأحب بلاد الله إليه، وتم له الأمر، رآه الأنصار ذات يوم قد علا من الصفا حتى يرى الكعبة، فرفع يديه، وجعل يحمد الله ويذكره، ويدعو بما شاء الله له أن يدعو فى تضرع وخشوع، وكانوا مجتمعين تحته فى سفح الصفا، فقال بعضهم لبعض: أترون رسول الله «صلى الله عليه وسلم» بعدما فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها، أم يرجع إلينا؟! فلمَّا فرغ من دعائه أخبره الوحى بما قالوا: فتوجه الرسول «صلى الله عليه وسلم» لهم وقال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل يتلطَّف بِهم حتى أخبروه بما قالوا، فقال «صلى الله عليه وسلم»: إنِّى عبد الله ورسوله، هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم، فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله يا رسول الله، ما قلنا الذى قلنا إلا حرصا على الفوز بالله وبرسوله، فقال الرسول «صلى الله عليه وسلم»: وإن الله ورسوله يعذرانِكم، ويصدقانِكم.
قريش تسعى لتجديد العهد
قدم أبو سفيان المدينة، ودخَل على ابنتِه أمِّ المؤمنين أمِّ حبيبة، فأقبل ليجْلِسَ على فراش النبى صلى الله عليه وسلم، فقامت بإبعاد الفراش عنه، فسألها، أرغبتِ بِى عن الفراش أم رغبتِ به عنِّي؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلَّمه فى تجديد العهد، فلم يَرُدَّ عليْه الرَّسول شيئًا، ثُمَّ ذهب إلى أبى بكر الصديق، وطلبَ منه أن يكلِّمَ الرَّسول فى الأمر، فأبى الصديق رضى الله عنه وقال له: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطَّاب، فطلب منه أن يَشْفَع لقُريْشٍ عند رسول الله، فكان عُمَر أشدَّ النَّاس وطأةً عليه، وأعنف ردًّا، ثُمَّ أتَى عليَّ بن أبى طالب، وسأله بالرَّحِم أن يَشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليّ: يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمرٍ ما نَستطيع أن نكلِّمَه فيه، فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة بنت الرَّسول يستعطِفُها، وعاد أبو سفيان زعيم قريش إلى مكَّة خائبًا، لَمْ يَنَلْ شيئًا مما قدِمَ من أجْلِه
الاستعداد للغزوة
كان من عادة الرسول- صلى الله عليه وسلم فى قيادته الحربية، أنه إذا أراد التوجُّه لجهةٍ يباغت عدوَّه مباغتة، ويُخْفِى الأمر عن عيون العدوِّ وجواسيسه، إلا أنَّه حين أراد فتح مكَّة خالف عادتَه، فأمر المسلمين بأن يتجهَّزوا للخروج، وصرَّح لهم بالجهة التى يريدُ التوجُّه لها، والتجأ إلى الله داعيًا فقال: «اللَّهُمَّ خذِ العُيُون والأخبار عن قُرَيْشٍ، حتَّى نبغَتَها فى بلادِها « ويبدو أنَّ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم قد صرح بمقصده فى هذه المرَّة؛ لأنَّ فتح مكَّة حدث خطير من شأنه أن يعلم المسلمون به، ليستعدَّ كلُّ القادرين منهم لاكتساب شرف المساهمة فيه، وإنقاذ بلَدِ الله من الشرك، وتطهيره من رجس الأوثان وعبادتها فيه، وأخذ الرسول الحيطة مَخافةَ تسرُّب الأخبار إلى أهل مكَّة فأقام الرُّقباء على الطرق فى الجبال وجعل عليْها عمر بن الخطاب، وبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سرية من ثَمانية رجالٍ بِقِيادة أبى قتادة بن ربعي، وكان ذلك مع أوائل شهْرِ رمضان وسارتْ هذه السرية حيثُ وجَّهها الرَّسول صلى الله عليه وسلم حتى يوهم العرب أنَّها بعثة استكشافية، وطليعة لجيش الرسول القادم ناحية الجهة التى انطلقت إليها، فتسير بذلك الأخبار بين العرب، حتى إذا باغتهم المسلمون لم يجدوا سبيلا سوى الاستسلام بعد عجزهم عن المقاومة، وبذلك يَحْصُل مقصودُ الفتح، وتُحْمى الدماء، ولا تستحل الحرمات فى بلد الله الحرام، وتبقى له مهابته ومكانته، ويظلُّ بين الناس معظَّمًا أبد الدهر. وهذه الخطة خطة حكمة ورشد.
الاقتراب من مكّة
بدأ جيش المسلمين بالتحرُّك مُتوجِّهاً إلى مكّة، بعدما استخلف النبيّ على المدينة الصحابيّ أبا رهم الغفاري، وظلّ جيش المسلمين يسير إلى أن وصل إلى منطقة فيها عين ماء تُسمّى «الكديد»، أفطر عندها الرسول والصحابة؛ لأنّهم كانوا صياماً، وأكمل الرسول سيره حتى أن نزلوا وادى فاطمة عشاءً، وأوقدوا نيرانًا كثيرةً مُرْهِبة لِمَنْ يراها فى الليل، ودالَّة على أنَّ الجيش عظيم، وهدف الرسول من ذلك إلقاء الرعب فى قلوب طلائع قريش، حتى يستسلموا، ويدخل الرسول يجيش المسلمين مكَّة دون حرب، حماية للدماء، وحرمة للبلد الحرام، ولبيت الله الكعبة المشرفة، ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم (الجحفة) لقيه عمه العباس بن عبدالمطلب معلنًا إسلامَه، ومهاجِرًا بعياله إلى المدينة، فوجد الرَّسول متوجِّهًا لغزو مكة فعاد معه، وخرج العبّاس على بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم ليرى أمر قريش، فوجد أبا سفيان خارجاً يتجسّس الأخبار، فأخذه العبّاس إلى معسكر المسلمين، وحينما رآهم عمر أراد قتل أبا سفيان، إلّا أنّ العباس أجاره، وحضر أبو سفيان إلى النبيّ وأنكر عليه النبى بقاءه على الكفر، فأسلم أبو سفيان، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم-: «مَن دخل دارَ أبى سفيانَ؛ فهو آمِنٌ، ومن أغلق بابَه؛ فهو آمِنٌ، ومن دخل المسجدَ؛ فهو آمِنٌ. فلما أراد أن ينصرف؛ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لعمه العباس: يا عباسُ! احبِسْه بمضيقِ الوادي، حتى تمرَّ به جنودُ اللهِ فيراها، وبعدها انطلق أبو سفيان ينادى فى أهل مكّة مُحذِّراً لهم أنّه لا طاقة لهم بالجيش القادم مع محمد بن عبد الله، وسار رسول الله حتى وصل مشارف مكة.
يوم الوفاء
نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فى القبة التى ضربت له ، فاستراح بها بعض الوقت، ثم أقبل الرسول إلى الكعبة، فاستلم الحجر الأسود، ثم طاف بالبيت على راحلته سبعًا، فلمَّا أتَمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم طوافه، دعا «عثمان بن طلحة» سادن الكعبة، فأخذ منه مفتاحها، فأمر بفتح بابها ففتحه له، فدخلها، فرأى فى داخلها صورًا للملائكة وغيرهم، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقْسِمان بالأزلام، فقال: « مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ثم أغلق عليه باب الكعبة ليخلو بربِّه فى عبادة وصلاة، وكان معه فيها «أسامة بن زيد» و»بلال ، ثم صلى حيث وقف، ثم دار فى البيت، وكبر فى نواحيه، ووحد الله ثُمَّ وقف على باب الكعبة، وقد اجتمع فى المسجد خلق كثير ينظرون إليه من بعيد، وقد وضعوا أيديهم على جباههم ليتمكنوا من جودة النظر، حيث كانت الشمس تِجاه وجوههم ، فخطب الناس يومئذ فقال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صَدَقَ وعده ونصر عبدَه، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال صلى الله عليه وسلم:» إنِّى أقول لكم كما قال أخى يوسف: « لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ثم جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم فى المسجد، فقام إليه على بن أبى طالب رضى الله عنه، ومفتاح الكعبة فى يده، فقال:
يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليْك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيْنَ عُثمان بن طلحة؟، فدُعى له، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: «هاك مفتاحُكَ يا عُثْمان، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها يا بنى شيبة خالدةً تالدةً، لا يَنْزِعُها عنكم إلا ظالم »