على مر التاريخ، تشهد الخريطة الجيوسياسية العالمية تغيرات مفاجئة وتقلبات مستمرة، ولا تثبت على حال ولا عند وضع معين مهما طال الزمان، كلها حسب المصلحة، وتتنقل الدول من تحالف إلى آخر ومن تكتل إلى تكتل أو حلف إلى حلف، من العسكرية والاقتصادية والسياسية، وكثيرا ما يتحول الأصدقاء والإخوة من البلدان إلى أعداء والعكس.
فقد انتقل العالم من الإمبراطوريات العظمى فى بداية القرن الماضى، إلى الأحلاف فى منتصفه، ففى العام 1949، ظهر حلف شمال الأطلسى «الناتو»، الذى ضم الولايات المتحدة وعددا من حلفائها الغربيين، واعتبره الاتحاد السوفيتى تهديدا مباشرا له، فأنشأ فى مايو 1955حلف وارسو إثر مؤتمر لدول الكتلة الشرقية، وتضمنت اتفاقية وارسو أن دول الحلف ستدافع عن أى دولة عضو تتعرض للهجوم من قوة خارجية، وأنشأت جيشا تحت قيادة المارشال السوفيتى إيفان كونيف.
وتشكَّل حلف وارسو كرد فعل على قرار أمريكا وحلفائها الأوروبيين إدراج ألمانيا ضمن حلف «ناتو» الذى يعد تحالفاً عسكرياً بين الولايات المتحدة وكندا وعدد من الدول الأوروبية لمواجهة التهديد التوسعى البرى للسوفييت على أبواب أوروبا الغربية.
وبعد 34 عاما وفى 1989، توحد شطرا ألمانيا وانضم الشرقى كأول عضو من حلف وارسو إلى الناتو، ثم أعلنت كل تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا انسحابهم من حلف وارسو، تلتهم بلغاريا ليتم إنهاء المعاهدة رسميا فى يوليو 1991، ثم بدأ أعضاء وارسو السابقون ينضمون إلى الأطلسى ومنهم تشيكيا والمجر وبولندا، ثم استونيا وليتونيا وليتوانيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا، وبعد توسعه، أصبح الناتو يضم 32 دولة، آخرها السويد فى مارس 2024.
وبعد عودته إلى البيت الأبيض، جدد ترامب موقفه من «الناتو»، ورفضه لأسلوب إدارته خاصة وأن أمريكا تساهم بـ67 ٪ من الإنفاق العسكرى المشترك للحلف، الذى يتجاوز 1.1 تريليون دولار، ويضم 3.5 مليون جندى، منهم 1.2 مليون أمريكان.
وفى تحول مقابل ردا على ترامب، قرر المجلس الأوروبى الذى يضم رؤساء دول والحكومات زيادة الإنفاق الدفاعى بشكل كبير، وتدرس ألمانيا خطة استثمارات ضخمة لتعزيز جيشها، وفى الأسبوع الماضى، منح قادة الاتحاد الأوروبى الـ27 فى قمة استثنائية، الضوء الأخضر لخطة المفوضية زيادة الإنفاق الدفاعى إلى 800 مليار دولار، وقالت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لايين «تواجه أوروبا خطرا واضحا وقائما، وبالتالى يتعين عليها أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها».
ووصفت صحيفة الكونفدنثيال الإسبانية وصول ترامب إلى البيت الأبيض، بأنه حدث زلزالى للسياسة الخارجية، ولذلك فإن أمر تسليح أوروبا أصبح ضروريا.
وسيتم توجيه الـ800 مليار لتصنيع سلاح أوروبا فى مصانع محلية، بدلا من الشركات الأمريكية التى كانت توفر الاحتياجات العسكرية والتسليحية للناتو، وبأموال أوروبية، ما يضيّع صفقات بالمليارات على الولايات المتحدة، كما أن الميل الأمريكى نحو روسيا، يتسبب فى شق صفوف «الناتو» ويهدد مبدأ الدفاع المشترك، الذى كان قائما على مر عقود بين ضفتى الأطلسى.
وهكذا يعود السباق المحموم نحو التسلح، والردة عن الاتجاه العالمى بخفض الموازنات العسكرية، والتخلص من بعض الأسلحة النووية، لكن المؤكد أن تصريحات شخص واحد أو قراراته المنفردة، يمكن أن تعيد تشكيل خريطة العالم وتغير كل الأوضاع الدولية، وتقلب الموازين والأحوال رأسا على عقب.
وأتعجب من الكثيرين -حول العالم كله- من أنهم استقبلوا قررات ترامب وكأنها فجائية، مع أن هذا غير صحيح، فقد كانت لها مقدمات على مدى أربع سنوات خلال فترة رئاسته الأولى «2017 – 2021» وإرهاصاتها واضحة، وأعلن عن الكثير منها لكن لم يمهله الشعب الأمريكى ولم يتم اختياره حينها لفترة رئاسة ثانية، وها هو قد عاد إلى البيت الأبيض على طريقة «فاصل ونواصل»، لينفذ ما كان يعتزمه، فى الفترة الثانية التى بدأت فى يناير الماضى.
على الذين يرون أنهم صدموا بقررات ترامب، أن يراجعوا أنفسهم ويفحصوا ذاكرتهم لأنها هى التى أصابها العطب وتعانى من آفة النسيان.