إنها اليابان هذه المعجزة التي تسللت من بين الرماد،ونفضت عن نفسها دخان الغبار الذري الذي تشكلت من بين أعمدته عملاقا كطائر الفينيق الذي يخرج من بين الرماد ليشكل عالما أسطوريا يضرب بجناحيه العملاقين أرجاء الكرة الأرضية.
هي المعجزة التى أبهرت العالم بمواجهة المصير، تحدت الموت بعد عام 1945، وأبهرت العالم بالعودة الناعمة للحياة وللوجود، ورمزا للسلام وللقوة الاقتصادية في أدق تكنولوجياتها وأدواتها الصناعية.
قرأت كثيرًا عن هذا البلد، وسعدت بلقاء عدد من أعضاء السلك الدبلوماسي في سفارتهم في القاهرة، وامتدت هذه اللقاءات في أروقة الأزهر الشريف.. عندما استقبل مرصد الأزهر لمكافحة التطرف عددًا من شباب اليابان الذين يعملون بالحقل الدبلوماسي بهدف تعريفهم بخارطة التطرف في المنطقة وأهم المصطلحات في معجم التطرف العنيف.
لقد كان التعاون بين مرصد الأزهر وبين الدبلوماسية اليابانية إيجابيا وبناءا لبيان المنطلقات الأيديولوجية والعقدية التي تبلور أفكار المتطرفين وتملأ عقولهم وأذهانهم، والإشارة إلى كون التطرف ليس دينيا فقط بل يكون سياسيًا واجتماعيًا ويتخطى الأفراد إلى المؤسسات الاجتماعية، كما كانت هذه الزيارة فرصة لهذا الوفد أن يتعرف على مصر وتاريخها ومسيرتها في بناء الحضارة، ودور الأزهر الشريف في نشر الوعي وبناء الإنسان، وكل ذلك من خلال مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، على أيدي علماء متخصصين.
في ضوء هذه العلاقة المتميزة بين مرصد الأزهر الشريف لمكافحة التطرف وبين وزارة الخارجية اليابانية سعدت بتلقي دعوة لحضور برنامج تدريبي تثقيفي بعنوان: «حوار عن مكافحة التطرف في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» في دولة اليابان.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تعقد فيها الخارجية اليابانية هذا البرنامج أو الحوار، بل كانت المرة الثامنة. وقد شارك فيه المرصد السنة الماضية من خلال باحثة متميزة في وحدة اللغة الإنجليزية، الأستاذة مريم عبد الجواد. جمعت هذه الدورة أكاديميين وصناع قرار من عدد من بلاد الشرق الأوسط، منها العراق والأردن والإمارات، وإيران.
وضع الجانب الياباني برنامجًا مكثفا ومنوعا ودقيقا للغاية. حرصت الخارجية اليابانية من خلال هذا البرنامج على أن يتعرف الزائرون على الأنشطة المختلفة في ملف المرأة والأمن (Women, Peace and Security)، وعلى ملف مكافحة التطرف، وبناء الإنسان الدولي. عرض كل ملف المسئول عنه في الخارجية، وجرت مناقشات مثمرة بين الجانبين، ليتضح لنا من اليوم الأول أن الهدف من هذا البرنامج هو التعريف والتعارف، الذي لن يتحقق إلا بالتقارب ونقل التجربة كاملة من خلال أشخاص قادرين على اتخاذ خطوات جادة وإيجابية كلٌ في مجاله.
لم تكن الزيارة إلى طوكيو فقط، بل طاف بنا أفراد من الوزارة إلى مدن اليابان المختلفة، لا بغرض السياحة، بل لاستكشاف الحلم الياباني والبحث عن الجذور الكامنة خلف هذه الشخصية من القوة والصلابة والتمسك بالحياة ، والطموح المشروع الذي يؤمن بمقدراته الوجودية.
زرنا مدينة هيروشيما التي سبقت وقرأت عنها وشاهدت أفلاماً عما حدث لها وفيها ولكن كما يقولون أن ترى ليس كما تسمع أو تقرأ… فعندما رأيت صورة الفتاة التي تفحمت اثناء ذهابها المدرسة في صباح السادس من اغسطس ١٩٤٥؛ يوم القاء القنبلة علي هيروشيما، وبجوارها علبة طعام متفحمة مثل جثتها.
الرسالة التي أراد اليابانيون إيصالها إلى زوار ذلك النصب التذكاري هو أن الحرب ثمنها غالٍ وقاس وأن السلام هو الاساس وأن الحرب هي الاستثناء وأنه من حق كل إنسان حر ان يعيش في سلام دون خوف.
شاهدت بنفسي كيف بنى اليابانيون هذه المدينة التي اصبحت حطاما وكنت أظن انها مازالت كذلك ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك تماما … رأيت شعبا قوياً أراد أن يحيا وأن يحول هذه المحنة لمنحة وفرصة جديدة.
زرنا مركز والذي اتخذ من مدينة هيروشيما مقراً له لكي يعطي رسالة مفادها ان المدينة صلبة وقوية وقادرة على تأهيل وتدريب الأجيال القادمة وأن النهوض بعد السقوط يمنح قوة لا تضاهيها قوة أخرى… التقيت كذلك برجال دين من الديانة البوذية والشنتاوبة… سمعنا منهم عن تعاليم شريعتهم وعن أبرز سماتها وأهم ملامحها… كانت فرصة جيدة للمعرفة والحوار والأخذ والرد… تناقشنا في أمور كثيرة وقلت لهم ان هناك مشتركات كثيرة تجمع بين شريعة الإسلام وبين هذه المذاهب… والحديث سيطول في هذه الجزئية بالتحديد لأن النقاش مع رجال الدين كان طويلا وعميقا ولكن الخلاصة هي أن شعب هذا الكوكب يكاد لا يعرف شيئًا عن الإسلام والمسلمين… لا يعرف عنهم سوى ما يسمعه في وسائل الإعلام والتي في الأغلب تكون موجهة او مشوشة… الخلاصة ان المشتركات الكثيرة الإيجابية يجب أن تبرز وأن يَحتفى بها.
في هذه اللقاءات التي اتسمت بالود والشفافية تيقنت أن الاختلاف سنة كونية لا محالة وتضيف على لوحة الكون جمالا لا يضاهيه شيئ وأن ما يجمع البشرية من علاقات يزيد كثيراعلى ما يفرقها.