قبل حوالى قرن من الزمان، كان العالم عبارة عن إمبراطوريات عملاقة، فى مساحاتها وقوتها وإمكاناتها، وإن كانت مختلفة فى سياساتها، إحداها الإمبراطورية الروسية، ومثل غيرها أصابها الضعف لما حل بها من أحداث، ومن رحم الإمبراطورية الروسية ولد الاتحاد السوفيتى الذى تكون من العديد من الدول فى كيان سياسى كبير، ومنها أوكرانيا، وكانت روسيا كبرى الدول المؤسسة له عام 1922.
كان الاتحاد السوفيتى أكبر دولة من حيث المساحة قدرت بسدس اليابسة، ويقطنه 290 مليون نسمة من عشرات الأعراق، وموارد طبيعية هائلة، وثانى أكبر اقتصاد، لكنه واجه مصاعب نقص السلع والتضخم وتراجع الإنتاج، وفى سياق الحرب الباردة، وجه نسبة كبيرة من موارده نحو التصنيع الحربى والجيش، وتزايد الإنفاق العسكرى، وتشكل حلف «وارسو»، الذى ضم الاتحاد والجمهوريات الاشتراكية عام 1955، بعد عام من تشكيل حلف شمال الأطلسى «الناتو»، وأصبح الاتحاد السوفيتى قطبا موازيا لأميركا.
ولكن زاد من تأزم الوضع فى البلاد كارثة مفاعل تشرنوبل النووى، الذى انفجر فى أبريل 1986، وخلف خسائر مادية وبشرية كبيرة، وتنامت النزعات القومية، بعد إصلاحات «جورباتشوف»، واندلعت موجة من الحركات المؤيدة للاستقلال وأعلنت دول البلطيق الانفصال، وتوالت الدول فى الانسلاخ من عباءة الاتحاد السوفيتى، وانتهى من الوجود بعد 69 سنة.
وفى مرحلة حديثة، وقعت خلافات بين «الأختين» روسيا وأوكرانيا وخاصة بعدما اتجهت كييف إلى الاحتماء بالغرب، وارتمت فى أحضان أوروبا وأمريكا، وحاولت الانضمام إلى حلف الناتو، ما اعتبرته موسكو تهديدا لأمنها القومى، خاصة وأن حلف الأطلسى سيكون على مقربة من الحدود الروسية، فنشبت الحرب.
قدم الغرب كل الدعم لأوكرانيا على مدى السنوات الثلاث الماضية، من سلاح وعتاد وخدمات لوجستية واستخباراتية، ومليارات الدولارت، بهدف إضعاف روسيا، لكن انقلبت الأحوال فى لحظة بتولى ترامب حكم البيت الأبيض، فقلب الموازين فجأة، ومارس ضغوطا على أوكرانيا، وما حدث مع زيلينسكى فى المكتب البيضاوى كان مفاجئا بكل المقاييس وهو يتلقى الأوامر بقبول خطة سلام دون أن يستشار فيها، وهدده ترامب بسحب الغطاء عنه و«ليقاتل وحده حتى النهاية، وقال له لولا أننا أعطيناكم مُعدّات عسكرية لكانت هذه الحرب انتهت فى غضون أسبوعين اثنين».
ولم تقف المفاوضات عند هذا الحد، بل طلب ترامب من أوكرانيا 500 مليار دولار، قدمتها لها أمريكا للتصدى لروسيا، وهذا المبلغ يساوى ثمن المعادن الأوكرانية الثمينة وعلى زيلينسكى أن يقدمها لواشنطن.
ورغم الإهانة التى تلقاها الرئيس الأوكرانى، اعتبره البعض «بطلا» لأنه استطاع أن يرد على ترامب، بينما يرى آخرون أنه لم يمتلك الحنكة السياسية لاحتواء الموقف، وأرى أنه ربما كان «عشمه» فى الأمريكان فى غير محله، فقد توهم أن الدعم الأمريكى كان مكافأة ومنحة لما قدمه لهم من خدمة جليلة لأنه يحارب روسيا نيابة عنهم ولمصلحتهم أيضا.
وإن كانت هذه مقدمة طويلة لكنها ضرورية، إلى ما هو آت، وربما يكون أقرب إلى التخاريف، بأن يرد زيلينسكى اعتباره ويعود إلى الشرق، والتحالف مع روسيا مجددا، فإن كانت عدو اليوم يجعلها صديق الغد، وبذلك يوجه ضربة قاصمة للغرب، ويرجع لحضن الدب، خاصة وأن هناك من الأوكرانيين من ينحازون إلى موسكو ولا يجدون مصلحتهم ولا هواهم مع الغرب الذى يتعالى عليهم، وكذلك لم يكن كاملا الترحيب بانضمام كييف إلى الناتو.
قد لا يكون هذا الطرح عمليا حاليا فى سخونة الحرب، لكنه منطقى بحسابات المصالح، لاسيما وأن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين وعدد من القادة الروس لا يزالون يحلمون باستعادة الاتحاد السوفيتى، ولا أظن أن روسيا ستمانع قيد أنملة فى الفكرة، بل والكثير من الدول خاصة التى تعانى من سياسات الغرب الجائرة والعجرفة الأمريكية.
قد يعتبر البعض الفكرة غير معقولة، وقد تكون أمنية شخصية، إلا أنه فى ظل المتغيرات السياسية وتقلب العلاقات الدولية التى لا تعرف الثبات، فإن كل شىء ممكن، ولا يوجد مستحيل.