أخيرا نجح مجلس الأمن الدولى التابع للأمم المتحدة يوم الاثنين الماضى فى إصدار أول قرار بالوقف الفورى لاطلاق النار فى غزة، بعد ستة شهور من بدء الحرب العدوانية الإسرائيلية على الشعب الفلسطينى فى القطاع.
وأقول «أخيراً» لانه خلال الشهور الست جرت عدة محاولات لإصدار قرار من المجلس بهذا الخصوص أحبطت الولايات المتحدة ثلاث محاولات منها باستخدام الفيتو لمنع صدور القرارات.
وعندما تخلت الولايات المتحدة عن استخدام الفيتو ضد مشروع القرار الأخير يوم الاثنين الماضي، تمكن مجلس الأمن من إصداره بموافقة إجماعية من بقية أعضائه الأربعة عشر الدائمين وغير الدائمين وبينهم دول كبرى حليفة للولايات المتحدة مثل بريطانيا وفرنسا واليابان واكتفت المندوبة الأمريكية بالمجلس بالامتناع عن التصويت.
وقد سارع البعض إلى احتساب هذا الموقف للولايات المتحدة فى ميزان حساناتها ورآه «تحولا» ايجابيا فى موقفها تجاه أقرب حليف لها على مستوى العالم وهو إسرائيل وتجاه استمرار حربها العدوانية عى القطاع.
هذا- فى رأيي- نظرة أحادية للموقف الأمريكى تغيب عنها العديد من الحقائق التى تكشف، لماذا اتخذت الولايات المتحدة هذا الموقف الذى سمح بصدور هذا القرار.
أولى هذه الحقائق ان القرار صدر بالوقف الفورى لاطلاق النار «فى شهر رمضان» بينما شهر رمضان قد مضى نصفه ولم يتبق منه سوى النصف الآخر وهو أسبوعان من يوم صدور القرار.
وتعرف الولايات المتحدة جيدا ومسبقا ان إسرائيل ستعترض على القرار وان نتنياهو سيواصل الحرب حتى يحصل على نتيجة تحفظ له ولإسرائيل ماء الوجه.
وتعرف أيضا انه حتى فى حال موافقة طرفى الحرب على القرار فإن تنفيذ وقف إطلاق النار ميدانيا يحتاج تدابير وإجراءات قد يستغرق توفيرها فترة الأسبوعين المتبقيين من شهر رمضان فمهما حمل أى قرار بوقف اطلاق النار بين أى متحاربين فى العالم كلمة «فوري» أو «فورا» لا توجد أزرار يمكن بالضغط عليها لتنفيذه حال صدوره.
بالتالي.. القرار محكوم عليه- عمليا- بعدم التنفيذ وفى الشق المؤقت أو المحدد بمدة زمنية.
الحقيقة الثانية ان القرار يضيف إلى وقف اطلاق النار خلال شهر رمضان «ان تحترمه جميع الأطراف» وان «يؤدى إلى وقف دائم».
وقد رحبت حركة «حماس» بالقرار بينما رفضته إسرائيل ولم تحترمه وواصلت عدوانها يوم صدوره وأول أمس الثلاثاء وأمس الأربعاء وتواصل سقوط الضحايا من المدنيين الفلسطينيين.. إلى آخره.
أى أن القرار لم ينفذ فى الشق المؤقت حتى «يؤدى إلى وقف دائم» لاطلاق النار.
الحقيقة الثالثة ان المندوبة الأمريكية فى مجلس الأمن عقبت على القرار فور صدوره من مجلس الأمن ووصفته بأنه «غير ملزم» وهى تتحدث بالطبع باسم حكومة بلدها، أى أن هذا هو «التوصيف الأمريكى الرسمي».
هذا التوصيف يتحدى نص المادة الخامسة والعشرين من ميثاق الأمم المتحدة التى تصف القرارات التى تصدر عن مجلس الأمن بأنها ملزمة لكافة أعضاء الأمم المتحدة أى لكل دول العالم.
والولايات المتحدة توفر بهذا التوصيف «غطاء» لامتناع إسرائيل عن تنفيذ وقف اطلاق النار ولذلك أثار استنكارا شديدا داخل مجلس الأمن.
ويضيف القرار بنودا تتعلق بإزالة كل العوائق أمام المساعدات الإنسانية والوقود والكهرباء لأهالى غزة والافراج الفورى وغير المشروط عن جميع المحتجزين والتزام الأطراف بالقانون الدولى تجاههم ومعروف ان كل العوائق سببها إسرائيل.. لكن القرار تركها دون تحديد آليات لتنفيذها.
لقد مر الموقف الأمريكى فى مجلس الأمن تجاه الحرب العدوانية الإسرائيلية فى غزة بثلاث مراحل تبدو فى ظاهرها تعبيرا عن تغير أو تحول بينما هى فى الواقع لا تتخلى فى أى مرحلة منها عن ثوابت سياستها وتحالفها مع إسرائيل.
الاستخدام المتكرر للفيتو لمنع صدور قرار من مجلس الأمن بوقف اطلاق النار كان أولى هذه المراحل.
ويجب ألا ننسى ان المرات التى مارست فيها الولايات المتحدة ذلك كانت أحد الأسباب الرئيسية فى إطالة الحرب العدوانية الإسرائيلية وكل ما تبعها ترتب عليها من آثار وأولها وصول أعداد الشهداء والمصابين من الفلسطينيين إلى ما يزيد على المائة الألف، كان أى وقف لاطلاق النار كفيلا بانقاذ حياة عشرات الآلاف منهم.
وان الولايات المتحدة كانت تفعل ذلك عمدا لاتاحة أكبر وقت ممكن لإسرائيل لتحقق أهدافها من الحرب والتى شاركتها الولايات المتحدة فيها علنا ودعمتها بمائة صفقة سلاح خلال ستة شهور وهذه الأهداف هى القضاء على حماس واستعادة جميع الرهائن وضمان عدم تكرار «طوفان الأقصي» مرة أخري.
بل أضافت إسرائيل أهدافا أخرى هى التغيير الجغرافى والديموجرافى للقطاع والتوسع الاستيطانى فى الضفة الغربية.. إلى آخره.
وكانت المرحلة الثانية بعد ان احبطت مشروع قرار قدمته الجزائر فى مجلس الأمن بوقف اطلاق النار ومنعت صدوره باستخدام الفيتو.. فقد قررت الولايات المتحدة وقتها ان تتقدم- شخصيا- بمشروع قرار مضاد يتبنى المواقف الإسرائيلية بالكامل وهو المشروع الذى استفز روسيا والصين واستخدمتا الفيتو ضده لإسقاطه.
والموقف الأمريكى تجاه قرار الاثنين الماضى يمثل المرحلة الثالثة.. التخلى عن استخدام الفيتو لإصدار قرار لا فرصة- عمليا- لتنفيذه خاصة بعد ان وصفته بأنه غير ملزم تشجيعاً لإسرائيل على تحديه.
هذا التسلسل فى المواقف لا يعكس تغييرا فى قناعات السياسة الأمريكية ولا ثوابتها.. والإدارة الأمريكية تؤكد بنفسها ذلك من خلال تصريحات المسئولين الرسميين فيها.
فقط الولايات المتحدة تشعر بفداحة تأثير الحرب العدوانية الإسرائيلية فى غزة السلبى على صورتها داخليا وعالميا وتحاول التماهى مع التيار الكاسح المعارض للحرب والمطالب بوقف الحرب وانقاذ الشعب الفلسطينى والاعتراف بحقه فى دولة مستقلة على أرضه.. وهو تيار أصبح له وجود ونفوذ حتى داخل الحزبين الديمقراطى والجمهورى وبين الحلفاء الأوروبيين وعلى امتداد قارات العالم.
الترحيب بقرار مجلس الأمن الاثنين الماضى طبيعي، سواء من جانب حماس والسلطة الفلسطينية أو من جانب جامعة الدول العربية ومنظمة وأعضاء ومن دوائر عديدة فى شتى أنحاء العالم.. فهو خطوة يمكن البناء عليها إذا تم تنفيذه.
ماذا لو استمرت إسرائيل فى تحدى القرار والاستمرار فى الحرب والاجتياح البرى العسكرى لرفح كما تهدد كل يوم؟!
هنا سيكون التحدى الحقيقى لأمريكا.
فالمفترض فى مثل هذه الحالة ان يجتمع مجلس الأمن مرة أخرى لبحث الخطوة التالية.. والتى قد تتطلب فرض عقوبات على الطرف الممتنع على التنفيذ أو المعوِّق له طبقا للفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية.
هل سيحدث ذلك؟! أم سيتعرض للعرقلة؟!
أم ستحاول الولايات المتحدة الضغط لتسريع وتنشيط المسار البديل وهو مفاوضات الأطراف فى الدوحة والقاهرة للتوصل إلى اتفاق حول الهدنة وتبادل الأسرى والمحتجزين تجنبا لمأزق العقوبات والفصل السابع إياه؟!
دعونا ننتظر.. لنري.