المشكلة الأكبر فى أزمة قطاع غزة الحالية، كما تدعى وجهة النظر الأمريكية هى الإفراج عن الرهائن الذين تحتجزهم المقاومة الفلسطينية وحق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، وبالنسبة لإسرائيل فهى تزعم أن سكان غزة هم أكبر مشكلة لأنهم «يأوون» عناصر المقاومة ويعطلون المشروع الصهيونى فى الأراضى الفلسطينية، ومن ثم فلا مانع من إبادتهم جميعا أو تهجيرهم بالقوة إلى الدول المجاورة، أما العرب وهم أصحاب الحق منذ قيام إسرائيل وحتى الآن، فإن المشكلة لديهم تتلخص فى إنهاء الاحتلال الإسرائيلى وقيام دولة فلسطينية على حدود 1967، فضلا عن مطالبهم المتعلقة بغزة حاليا بوقف إطلاق النار وسرعة إنفاذ المساعدات إلى السكان وعدم تهجيرهم إلى خارج القطاع.
هكذا تتحدث الأطراف الثلاثة منذ شن العدوان الإسرائيلى فى أكتوبر الماضى وحتى الآن، فى وقت تزداد فيه مأساة سكان غزة «لحظة بعد لحظة « و»ساعة بعد ساعة» وليس يوما بعد يوم أو أسبوع بعد أسبوع، لا سيما وأن الوضع فى قطاع غزة وكما نراه على الشاشات ووفقا لما يرويه سكان القطاع، بات مؤلما ومعذبا ولا يحتمل انتظار المفاوضات طويلة الأجل أو قصيرة الأجل، ولا «نظرات» الدبلوماسيين التائهة فى المؤتمرات الصحفية، ولا الحديث عن «الهوة الواسعة» فى وجهات النظر ومحاولات التقريب بين الجانبين، وكل العبارات المشابهة التى تستهلك الوقت فقط، دون التوصل لحل حقيقى ينقذ سكان القطاع الأبرياء مما يعانونه من قصف وتدمير وحصار وتجويع وحرب إبادة تحدث لأول مرة فى تاريخنا الحديث.
لقد تدهورت الأوضاع فى غزة بدرجة كبيرة لا يمكن تحملها، وتسببت همجية إسرائيل وإصرارها على مواصلة عمليتها البرية فى جنوب غزة «رفح الفلسطينية» فى تضاعف مشاعر القلق والخوف لدى الفلسطينيين هناك والذين باتوا يترقبون اقتحام الدبابات الإسرائيلية فى أى وقت، أحد السكان قال: إنه «مع كل قصف بيصير فى رفح بنكون خايفين إنه الدبابات تدخل، الساعات الأخيرة كانت من أصعب الأيام من يوم اللى جينا هنا قبل أسابيع، إحنا عايشين فى خوف فى رفح. جوعانين ومشردين ومستقبلنا مش معروف، ومن دون أية إشارة على وقف إطلاق نار يمكن يجبرونا ننزح على الشمال ويمكن على أقصى الجنوب»، مواطن فلسطينى آخر قال: «إنه مع قسوة القصف والحصار فإن أعداد كبيرة من سكان غزة يضطرون إلى البحث فى أنقاض البيوت والمبانى المدمرة آملين فى العثور على قطعة خبز أو أى شيء يمكن تناوله للتخفيف من آلام الجوع، لقد أدى الحصار إلى ركود شامل فى القطاع وارتفاع كبير فى نسبة الفقر والعوز».
الكارثة الأخطر والتى تبرزها التقارير المصورة والقادمة من القطاع تتمثل فى ما فعله القصف والحصار والجوع فى سكان غزة، وهى الأمور التى أشار إليها الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيرش وجعلته يذهب مباشرة إلى رفح المصرية ويتحدث للعالم من هناك محذرا من خطر المجاعة واجتياح القطاع، وحسب المشاهد الواردة فقد بلغت الأمور لدرجة ترك جثث الشهداء فى الشوارع، واكتفاء البعض بتغطيتها بقطع من البلاستيك أو القماش، كذلك علاج المصابين فى الأماكن العامة دون استخدام «بنج» أو ادوات طبية، لقد تعدّت تبعات هذا العدوان إلى القطاع الصحي، بتخريب المستشفيات والمراكز الصحية وبعدم توفير الأدوية واللوازم الطبية لإجراء العمليات الجراحية، فضلا عن حرمان سكان غزة من خدمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» والتى باتت غير مستعدة لأى عمل إيجابى أو استجابة إنسانية.
تلك هى المأساة التى تزداد تعقيدا فى كل لحظة وثانية، مأساة حرب إبادة ضد نحو 2.3 مليون مواطن فلسطينى فى غزة، لم يرحمهم الاحتلال رغم قرارات محكمة العدل الدولية الصادرة فى يناير الماضى باتخاذ تدابير فورية وفعالة لحماية الفلسطينيين فى قطاع غزة المحتل من خطر الإبادة الجماعية»، ورغم المفاوضات الجارية وتغير مواقف بعض الدول الكبرى تجاه الوضع فى غزة ومطالبها انفاذ المساعدات، ثم قرار مجلس الأمن الأخير والصادر يوم الاثنين الماضى والرامى إلى «وقف فورى النار خلال شهر رمضان تحترمه جميع الأطراف ويؤدى إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار، فضلا عن الإفراج الفورى وغير المشروط عن جميع الرهائن» وهو القرار الذى يبدو فى ظاهره أنه خطوة فى طريق الحل وإنهاء مأساة غزة إلا أن باطنه «عذاب» وتحريض على القتل، إذ اعتبرته الولايات المتحدة غير ملزم لإسرائيل، ومن ثم يمكن لحكومة تل أبيب مواصلة عدوانها الوحشى على الفلسطينيين فى القطاع، ومواصلة حرب الإبادة التى بدأتها قبل نحو ستة شهور.
المؤسف فى قرار مجلس الأمن غير الملزم لإسرائيل أنه سيضع سكان غزة خلال الأيام القادمة أمام كل أشكال الإبادة الجماعية دون أن يجد أولئك السكان من يرحمهم فى ظل نظام عالمى «ظالم».. تقوده واشنطن وتل أبيب.