قبل أيام قرر الملياردير الأمريكى جيف بيزوس ثانى أغنى أغنياء العالم، مالك صحيفة «ذا واشنطن بوست» الأمريكية فرض سياسة جديدة لنشر مقالات الرأى فى الصحيفة الأكثر انتشارا عالميا، بموجب القرار، ستوضع حدود تخص الحريات الشخصية والأسواق الحرة ولن يُسمح ينشر مقالات تتعارض مع مضمون القرار، بمعنى أن الكاتب لن يسمح له ينشر مقال يهاجم فيه ما اعتبرته الصحيفة خطوطا حمراء حتى ولو كان هذا رأيه الشخصى الذى من المفترض أنه حر فيه فى مجتمع يدعى أنه رائد فى مجال الحريات!
هذا بالطبع ليس قرارا بريئا من مالك صحيفة له أجندة أيديولوجية، بل ولا ينفصل عن المزاج السائد فى عالم التجارة والأعمال الأمريكى منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا، وبأى حال من الأحوال لايمكن النظر إلى القرار بمعزل عن موجة التملق الصارخة من كبار رجال الأعمال الأمريكان تجاه ترامب، وهو ما اتضح فى حفل تنصيبه، ومن ناحية أخري، هناك انخراط متزايد من قبل مجموعة من المليارديرات، معظمهم من عالم التكنولوجيا، فى عمل الإدارة الأمريكية.. حيث كلف إيلون ماسك المصنف رقم 1 فى قائمة أغنى أغنياء العالم، بمهمة ترشيد أداء الأجهزة الحكومية، ويتعامل ماسك بقسوة فى إنجاز مهمته مما أضر بالمؤسسات الحيوية الأمريكية.
قرار جيف بيزوس بالحد من حرية التعبير الصحفى فى واحدة من أهم الصحف فى العالم لا يمكن النظر إليه بمعزل عن العمليات الأعمق التى تهدد الصحافة الحرة فى العديد من البلدان التى تولى فيها قادة مناهضون لليبرالية زمام السلطة، والغريب أن الولايات المتحدة التى تدعى أنها «قلعة الحريات»، والنموذج الأمثل للديمقراطية والشفافية وحرية التعبير، بات الإضرار بحرية الصحافة فيها معلن إلى هذه الدرجة ومتعمد بهذه الصورة، وهو ما يستوجب مراجعتنا لكل ما يشاع حول المبادئ الديمقراطية الأمريكية.
مارك زوكربيرج الرئيس التنفيذى لشركة ميتا المالكة لـ»فيس بوك و انستجرام» هو الآخر سرعان ما ذهب مع الريح التى تهب من البيت الأبيض عندما ألغى آلية التحقق من الحقائق فى منصة فيسبوك، مع إقرارها بحق وسائل الإعلام فى الترويج لقيم ورؤى عالمية بعينها! بيزوس ومارك ليسا سوى مثال على الانزلاق الخطير للنخب فى حرب صريحة على حرية التعبير.
الولايات المتحدة التى ظلت لعشرات السنين تعطى العالم دروسا عن الحريات ها هى تنتهكها على مسمع و مرأى من العالم، والرئيس دونالد ترامب لا يكف عن طريقته فى الخطاب التى يبدو فيها كشرطى العالم الوحيد وأن ما يقوله وما يقره هو الصواب بعينه والعالم من بعده قوم طائشون، أطلق مؤخرا تصريحا ناريا دعا فيه لخفض التمويل الاتحادى للكليات التى تسمح بالاحتجاجات غير القانونية، وكتب ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي: «سيوقف التمويل الاتحادى لأى كلية أو مدرسة أو جامعة تسمح بالاحتجاجات غير القانونية، وسيُسجن المحرضون أو يعادون بشكل دائم إلى البلد الذى أتوا منه، سيُطرد الطلاب الأمريكيون بشكل دائم أو سيعتقلون على حسب الجُرم».
أعتقد أنه آن الأوان لندرك أن لعبة السياسة فى العالم تفرض سطوتها وأن الديمقراطية كلمة مطاطية فضفاضة تضيق وتتسع حسب الهدف السياسي، وآن الأوان أيضا أن يكف المنبهرون بالتجربة الأمريكية عن انبهارهم أو بالأحرى يقرأون الواقع جيدا ويتعلم أصحاب عقدة الخواجة أنه ليست كل الدروس الواردة من أمريكا حول حرية الصحافة جديرة بالتعلم بل بعضها يستوجب تعلم عكسها.