يبدو أن الولايات المتحدة لم تعد تكتفى بملاحقة التطبيقات الصينية فى مجال وسائل التواصل الاجتماعى، بل وسّعت دائرة الاستهداف لتشمل نماذج البرمجة التفاعلية المسماة بالذكاء الاصطناعى، وهو ما يظهر جليًا فى الجدل المتصاعد حول تطبيق «ديب سيك».
جاء فى الأنباء أن السيناتور الجمهورى جوش هاولى المحامى والسياسى قدّم مشروع قانون لحظر «ديب سيك»، مرفقًا بعقوبات تصل إلى 20 عامًا سجنًا وغرامات بملايين الدولارات على مستخدميه بذريعة حماية الأمن القومى والشركات الأمريكية.
فى الحقيقة لطالما استخدمت الولايات المتحدة حجة الأمن القومى كسلاح فعال فى حربها التكنولوجية ضد الصين، تمامًا كما فعلت مع هواوى وتيك توك، واليوم نرى السيناريو نفسه يتكرر مع «ديب سيك»، حيث يُتهم التطبيق باختراق البيانات واستغلالها دون دليل ملموس، بمعنى آخر مشروع القانون ليس سوى أداة جديدة لتعزيز الهيمنة التكنولوجية الأمريكية، خصوصًا مع النجاح المتسارع لـ»ديب سيك» كمنافس لـ«تـشات جى بى تى».
لذا أرى هذا المشروع يعكس نهجًا استقطابيًا يهدد التعاون الدولى فى البرمجة التفاعلية ويغذى سباقًا تكنولوجيًا محمومًا قد يعوق مسيرة الابتكار البشرى، خاصة أنه ولدى مقارنته بالمنظومة القانونية الأمريكية نفسها نرى أن عقوباته المقترحة هى ضعف العقوبة فى بعض الولايات المفروضة على جرائم مثل الاغتصاب أو القتل غير العمد، كما أن فرض غرامة تصل إلى 100 مليون دولار على الشركات يعكس افتراضًا مسبقًا بأن استخدام «ديب سيك» يُعد جريمة، دون انتظار نتائج التحقيقات حول مزاعم سرقة البيانات من «أوبن إيه آى» و«مايكروسوفت».
وبدلاً من تحفيز الشركات الأمريكية على الابتكار، تلجأ واشنطن إلى سلاح التشريعات القمعية لإقصاء المنافسين خاصة أن التحقيقات بشأن «ديب سيك» لم تسفر حتى الآن عن أى أدلة دامغة على انتهاكاته، لكن الكونجرس يسارع إلى فرض العقوبات، ما يثير تساؤلات حول دوافع هذا التحرك ومدى موضوعيته.
إن ما يثير التساؤل فى هذه الحملة الأمريكية هو ازدواجية المعايير فى التعامل مع قضايا سرقة البيانات. فعلى مدار السنوات الماضية، لم تتردد الشركات الأمريكية مثل فيسبوك وجوجل ومايكروسوفت فى جمع بيانات المستخدمين واستغلالها بطرق مشكوك فيها، سواء لأغراض تسويقية أو غيرها. كما أننا لم ننس ما كشفته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية مؤخرا عن أن شركة جوجل عملت على تزويد جيش الاحتلال الإسرائيلى بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعى منذ الأسابيع الأولى للعدوان على غزة، ومع ذلك، لم نشهد قوانين صارمة أو عقوبات جنونية ضدها.
إذن خطورة مثل هذه العقلية الحمائية لا تكمن فى التأثير الفورى لمشروع القانون، بل فى تداعياته الأوسع على العلاقات الدولية، إذ قد ترد بكين بإجراءات مماثلة ضد الشركات الأمريكية فى وقت تحتاج فيه البشرية إلى تعاون دولى لمواجهة تحديات كبرى مثل تغير المناخ والأوبئة، كما ستتحول التقنيات الحديثة إلى أدوات صراع بدلاً من الانفتاح والتعاون.
وفى الختام أقول إن بكين أدركت أن المستقبل يكمن فى البرمجة التفاعلية، فاستثمرت بشكل مكثف فى تطوير تقنياتها الخاصة، بينما انشغلت واشنطن بفرض العقوبات.