اعترف بأننى مع قدوم الشهر الفضيل كل عام، ومنذ أن مَنَّ الله عليَّ بنعمة الأبوة، أشعر بالإشفاق على أبنائى الصغار، فقد حرمتهم ظروف الحياة وطبيعة العصر من أسباب كثيرة للفرح، ليس فقط خلال شهر الصيام بل أيضا خلال الأعياد وكل المناسبات التى كانت فيما مضى تطلق فى قلوبنا البضة أحلى مشاعر البهجة، وأصبحت الآن باردة جامدة خالية من دفء التواصل وروعة تحقق الأحلام البسيطة.
رمضان زمان واليوم.. هناك فرق.. رمضان زمان تواصل وتراحم، مشاعر جميلة وعادات رائعة، ورمضان اليوم.. والمقصود بالطبع سلوكيات البعض خلال الشهر الفضيل.. جفاء وتباعد، استغراق كامل فى المشهيات التليفزيونية وغياب كامل للتواصل الإنسانى ليس بين الأصدقاء والأقرباء فقط، بل بين أفراد الأسرة الواحدة.
رمضان اليوم إسراف مخيف وإفراط مرعب فى كل شىء، فى شراء ما يلزم وما لا يلزم، فى تناول الطعام بما يزيد على الحاجة ويفوق قدرة أجسامنا على الاحتمال، وكأننا نخشى مجاعة.. رمضان زمان كان أحلى وأجمل وأبسط، لماذا؟.
من وجهة نظر شخصية جدا وقد لا تبدو عصرية.. التليفزيون هو السبب الأهم، هو الذى أفسد حياتنا وافقدنا إنسانيتنا، ومن بعده وسائل الاتصال العصرية التى حولت لقاءات الأحباء والأصدقاء إلى رسائل قصيرة أو مكالمات هاتفية عابرة، واختصرت كل مشاعر المودة والألفة فى كلمات نمطية خالية من المعنى ولكنها بالمفهوم العصرى تؤدى الغرض وترفع الحرج.
رمضان، زمان، الذى ما زلت احتفظ بذكرياته الجميلة، هو قرآن ما قبل المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت، وتواشيح وابتهالات ما بعد الأذان بصوت الشيخ سيد النقشبندى، هو «رمضان جانا» بصوت محمد عبدالمطلب، و«سبحة رمضان» بصوت الثلاثى المرح، و«فوانيس رمضان» بصوت محمد فوزى رحمهم الله.. هو جلساتنا العائلية الحميمة بعد صلاة التراويح والزيارات المتبادلة مع الجيران والاصدقاء والاقارب، هو المسحراتى الذى كنا نخرج لرؤيته بعد منتصف الليل فى شتاء قارص البرودة حاملين الفوانيس البسيطة مصرية الصنع.. ومرددين معه عباراته الشهيرة «اصحى يا نايم وحد الدايم».. هو المسحراتى الذى كانت تحيرنا قدرته على تذكر أسماء جميع سكان الضاحية التى نعيش فيها.
فى رمضان طفولتنا، كان هناك دائما أسباب للمرح والفرح والبهجة، كانت تفرحنا من القلب رحلة كل يوم إلى المسجد لتأدية الصلاة بصحبة الأهل والأصدقاء، حيث نتلقى نفحات الحلوى والبلح والمكسرات لتشجيعنا على الاستمرار.. كانت تسعدنا الرحلات المكوكية التى كان يقوم بها آباؤنا كل يوم لزيارة الجيران والأصدقاء والأقارب حيث تتدفق أجمل المشاعر الإنسانية عبر أحاديث السمر، فيما نحن الصغار منشغلون بتناول الحلوى الرمضانية الشهية حاملين فى قلوبنا البضة فرحة من امتلك العالم، تلك الفرحة التى أضعناها على أنفسنا عندما اختصرنا العالم فى التليفزيون والموبايل والانترنت.
قبل أعوام، وكنت فى ذلك الوقت أعيش فى أبوظبى عاصمة الإمارات، قررت أن أشرك أبنائى الصغار فى الاحتفال باستقبال الشهر الفضيل، ضمن أجواء تستلهم الوطن وتستحضره، واتجه تفكيرى على الفور الى فانوس رمضان، ومنذ اللحظة التى قررت فيها ذلك تحول الأمر إلى كابوس مخيف.
أولى المفاجآت أن الفوانيس لم تعد ملونة ولا مزينة بالنقوش الإسلامية كما كانت فى السابق.. اكتشفت أن كل الفوانيس متشابهة.. نوافذ من البلاستيك الأبيض وهيكل بلاستيكى أحادى اللون، اصفر شاحب أو ازرق باهت أو أحمر قاتم.. وأنها تحولت من تحفة فنية يدوية رائعة إلى مجسم بلا هوية.
وثانى المفاجآت أننى اكتشف ان كل الفوانيس مصنوعة فى الصين.. وهو ما يحدث فى مصر غالبا وكأن صناعتها تحتاج إلى تكنولوجيا تستعصى علينا.. أما أغرب وأهم المفاجآت فهى أن الفوانيس العصرية هى التى تغنى وليس الأطفال، ما إن يتم تشغليها حتى ينطلق منها صوت آلى نشاز يردد مقطعا واحدا لا يتغير من أغنية قد لا يكون لها علاقة من قريب أو بعيد برمضان، فإذا كان فى البيت ثلاثة أطفال يحملون ثلاثة فوانيس.. فلك أن تتخيل ثلاثة أصوات نشاز تردد مقاطع من أغنيات مختلفة فى وقت واحد، تخيل انك تستمع فى وقت واحد إلى «أخاصمك آه» و«رمضان جانا» و«كوكو واوا».. وهكذا تحولت محاولة إشراك أطفالى فى احتفالية بقدوم الشهر الفضيل إلى كابوس لم ينقذنى منه سوى نفاد بطاريات الفوانيس الثلاثة.