صاحب الحنجرة الذهبية.. وأمير القراء
السيدة زينب بداية شهرته وفى رحابها كانت آخر قراءة له
قرأ القرآن الكريم فى الحرم المكى الشريف والحرم النبوى والأزهر والأموى
لقب بصوت «مكة».. وتنتشر مدارس باسمه حول العالم
صوت يحلق فى عالم الملائكة
سفير القرآن فى آسيا وأفريقيا وأوروبا والأمريكتين

يظل علماً من أعلام التلاوة فى مصر والعالم العربى والإسلامي، ويصنف بأنه واحد من القراء للقرآن الكريم المميزين فى مدرسة التلاوة بمصر، وحظى بحب البسطاء وإعجاب الرؤساء، ورغم مرور نحو قرن إلا عامين على مولده فى الأول من يناير عام 1927، إلا أن صوته مازال حياً واسماً مهماً فى عالم تلاوة القرآن الكريم.
وربما جيلى ومن قبلى ومن بعدى لم يحظ فيه قارئ مصرى للقرآن الكريم بما حظى به شيخنا الجليل.. شهرة وأداء، ويميز صوته المستمعون فى آسيا وأفريقيا وأوروبا والأمريكتين.. يقولون عنه كثيراً من المواقف الإنسانية، لكن أهم ما قيل عنه إنه له نصيباً فى اسمه، جاب العالم شرقه وغربه وشماله وجنوبه مع تلاوة القرآن فى المساجد وعواصم العالم ومراكزنا الإسلامية فى أوروبا، لكنه لم ينس جذوره فى صعيد مصر وفى محافظة قنا وأرمنت التى تتبع الأقصر حالياً، ، فالقارئ الشهير ولد فى أسرة من المشايخ والعلماء والمتصوفين، فجده كان من حفظة القرآن الكريم، وكذلك والده محمد عبدالصمد سليم أحد المجودين للقرآن، ونجح والده عندما لمس فى طفولته عشقه للقرآن الكريم وجمال صوته وموهبته فى الحفظ وطلاوة الصوت، ووسط ظروف تعليم صعبة فى بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، ذهب إلى كُتاب قرية مجاورة لقريته، ومع نمو ملكته ونبوغ حفظه، وهبه والده للقرآن الكريم، وعرضه على كبار المشايخ والأئمة بعد أن نصحه شيخ الكُتاب الذى التحق به بأنه موهوب يحتاج لرعاية وعناية، وأثمر ذلك مولد شيخ هو الأصغر سناً فى إتقان التلاوة بين أقرانه فى وقت لم يكن هناك تليفزيون وأيضا الراديو أجهزته كانت حكراً على الأعيان، وكانت وسيلته الوحيدة للاستماع إلى المشاهير الذين سبقوه الشيخ محمد رفعت والشيخ صديق المنشاوى ومصطفى اسماعيل وعلى حزين، كانت انطلاقته من «المرازعة» فى أرمنت ليجوب جميع مدن مصر، إضافة إلى مساجدنا فى القاهرة والأزهر والسيدة زينب وغيرها، وإلى الدول حول العالم وصار صديقاً للملوك والرؤساء، ويحسب له مع زملائه عباقرة التلاوة فى عهده تشكيل نقابة القراء بمصر وكان أول نقيب لها، وكما قرأ فى القصور الملكية، قرأ أيضا فى الحرمين الشريفين، وفى جميع المساجد الأساسية الكبيرة بعالمنا العربي، وكان أول أجر حصل عليه وهو ابن الثانية عشرة وذلك عام 1939 قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية ٣ جنيهات وهو مبلغ بقدر ذلك الزمان كبير جداً، وسط عمالقة التلاوة فى الصعيد فى عصره بقنا مثل الشيوخ صديق المنشاوى والشيخ عبدالراضى والشيخ أحمد الرزيقى وحسين الكلحى وأبوالوفا الصعيدي.. رحلته مع القرآن الكريم تقدم سيرة لقارئ جليل على مدى نحو قرن إلا سنوات قليلة.
الميلاد والنشأة
وسط ظروف صعبة ودقيقة، ولد الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد سليم، الذى اشتهر عالمياً وإعلامياً باسم «عبدالباسط عبدالصمد» وصاحب الحنجرة الذهبية، ولد عام 1927 فى قرية المرازعة مركز أرمنت، والده كان موظفاً بسيطاً وحافظاً للقرآن، وكذلك جده لوالده الفلاح الحافظ للقرآن الكريم، وكان الوالد والجد يسعيان لتعليم أولادهما حفظ القرآن الكريم وتجويده، وكانت البداية على يد الشيخ محمد الأمير شيخ كُتاب قرية أصفون المطاعنة الأقرب لقريته وتبعد عنها نحو ٦ كيلو مترات، وتعلم أولاً أصول القراءات السبع على يد شيخه محمد سليم حميدة وهو الشيخ الذى تنبأ بنبوغه المبكر، ويعد المشجع الأول للشيخ عبدالباسط ليس على التجويد فقط، بل تشجيعه على القراءة فى المناسبات وهو دون العاشرة، ومع الانطلاقات الأولى بدأ بمعاونة الشيخ محمد سليم يدر دخلاً فى وقت كان العائق فيه صعوبة المواصلات، فكان يصل إلى القرى مشياً على الأقدام.
سرادقات العائلات
فى هذا الوقت المبكر، بدأ صيت «عبدالباسط» الطالب الصغير يتحدث عنه السميعة فى أرمنت الحيط وإسنا ونقادة وقوص ومناطق الحلة والحليلة والأقصر، خاصة فى شهر رمضان بإحياء ليالى رمضان المبارك فى قرى قنا، حيث تتسابق العائلات لإحيائها، ومن السرادقات والمآتم، وصل إلى مولد سيدى عبدالرحيم القنائى «القناوي» وذاع صيت الفتى الصاعد بسرعة وسط أصوات لها باعها فى التلاوة ومعروفين فى «منادر العائلات» منهم صديق المنشاوى والد القارءين الشهيرين محمود ومحمد صديق المنشاوى وأيضا الشيوخ عبدالراضى وعوض القوصى والشاب الموهوب يتقدم يوماً بعد يوم، لأنه عاشق للتلاوة وشغوفاً بالوصول إلى قاهرة المعز، حيث الشيخ محمد رفعت ومصطفى اسماعيل، لدرجة أنه من حبه لهما كان يمشى يومياً نحو 12 كيلو متراً من قريته إلى سراى عبود باشا بأرمنت ليستمع إلى الراديو فى السراي، حيث كانت هذه الأجهزة نادرة جداً.
الوصول إلى القاهرة
المقرئ صاحب الصوت الذهبى والشيخ الصاعد فى بداية خمسينيات القرن الماضي، كان يعلم أن هناك أصواتاً مسموعة من سميعة للقرآن الكريم سبقته وكونت نجوميتها فى قاهرة المعز بينهم محمد رفعت ومصطفى اسماعيل، وكان قد اعتاد السير على القدمين إلى سراى عبود باشا فى ليالى رمضان للاستماع إليهم.
وفى عام 1950 قادت الشيخ أقداره لزيارة آل البيت مع والده وكانت المحطة الأولى أم هاشم «السيدة زينب» وكان بمناسبة اليوم قبل الأخير لمولدها ووسط نخبة من القراء يعمرون الليل بتلاوتهم، وهنا تحمس عبدالباسط وأعرب لوالده عن أمنيته بشرف التلاوة فى هذا المسجد، وهنا استثمر والده الشيخ على سبيع صديقه وطلب منه السماح لابنه بالقراءة وسط جوء مملوء بالرهبة والخشوع.
ورغم أن الشاب عبدالباسط نفسه خشى أن يفشل أمام فرصة عمره بالقراءة فى مسجد السيدة زينب، وكان الشيخ على سبيع إمام المسجد قد استمع إلى الشاب عبدالباسط فشجعه وسمح له بأن يقرأ بعض الآيات من سورة الأحزاب «إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً»، وكانت هذه الآية الكريمة فاتحة الخير للشيخ عبدالباسط واستولى على الأسماع وإعجاب شيوخه الكبار وكان اختياره بآية الاستهلال رسالة صادقة من الشاب خلبت لب المستمعين واستحوذت على إعجابهم وأقبلوا على الشاب الذى جاء من الصعيد قبل 24 ساعة وفى ساحة السيدة اعتلت صيحات الإعجاب وخشع الجميع لصوته وقراءته غير مصدقين طلاوة وحلاوة الصوت الذى يشع جمالاً، وأمام الإعجاب بصوته امتدت القراءة إلى نحو نصف ساعة، وما إن انتهى حتى أقبل عليه «السميعة» يستفسرون عن هذا الصوت الجميل والجديد، وتصادف وجود الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى أحد الحاضرين فى الليلة قبل الختامية لمولد السيدة، وقال كلمته التى كانت بمثابة شهادة مهمة من قارئ ضليع متمرس أمام والده «هذا القارئ ذو حظ عظيم»، وهنا اعتبر الأب أن هذا «وش السعد على ابنه» أن تكون أول قراءة جماهيرية فى القاهرة فى مولد السيدة، فقد كانت شهادة ميلاد جديدة لقارئ جديد ينضم إلى قائمة الحناجر الذهبية، وفى غضون سنوات قلائل صار اسمه ملء السمع والآفاق، واعتبر الأب أن هذا ميلاد جديد لابنه عبدالباسط ومنه انطلق إلى عالم الشهرة الواسع، وقرر الوالد البقاء فى القاهرة وفى نفس حى السيدة الذى شهد ميلاد تلاوته الواسع لأول مرة فى القاهرة، وبعدها انتقل إلى الحلمية ومنها إلى المنيل وبعدها إلى جاردن سيتى قبل أن يبنى فيلته فى العجوزة.
الاعتماد فى الإذاعة
فتحت له أبواب الاستماع وبحث عن اعتماده بالإذاعة وقدم الشيخ الضباع شريطاً له إلى لجنة الإذاعة وتم اعتماده عام 1952 وكانت أول سورة أذيعت له سورة «الشمس».. لكن بعيداً عن هذه القصة، الحقيقة هناك قصة أخرى سهلت دخوله واعتماده وهى على لسان رجل قنا الإعلامى الكبير فهمى عمر ابن نجع حمادى يقول: بينما كان الشيخ يقرأ عام 1951 وتصادف مرور رئيس الوزراء النحاس باشا وكان وقت صلاة العصر وقبل الأذان بين التلاوة والإقامة قرأ بعضاً من الآيات وأدهش صوته النحاس باشا وبجواره عدد من رجال السكرتارية وسأل هل هذا القارئ اعتمد فى الإذاعة، أجابوه لا يا باشا، وكان رئيساً للوزراء من 50 حتى يناير 52، فأصدر قراره باعتماده فوراً، وبعد انتشار ومضات صوته جلية عبر الأثير فى الإذاعة ليسمعها أبناء مصر كلهم، وكانت موهبته تقفز بين السميعة يوماً بعد يوم ولا حديث على كل لسان إلا عن عبدالباسط، وحدث اندماج غريب بين جمال الصوت وجمال الموسيقي، وكان غير المعروف عنده أنه يجيد العزف على العود وتحكم صاحب الصوت الذهبى فى كل مكان بموهبة فطرية وبات صوته أشبه بـ «سبرانو» التى تعرف بـ trgble وهو الارتفاع بيسر والهبوط كذلك والقراءة الطويلة بلا توقف، وبسرعة بات الأكثر تفرداً بين الكبار، ونجح فى استثمار ذلك بتسجيله قصار السور، الذى بات الشريط المسموع لدى السيارات العامة والأجرة.
الوداع الحزين
عندما أصيب القارئ الشهير بداء السكر، حزن حزناً شديداً وتفاقمت أوجاع الكبد، وسافر للخارج ولكن بإحساس قارئ القرآن رفض الزراعة وأحس بدنو أجله وطلب من ابنه أن يعود إلى القاهرة من لندن ليسلم روحه إلى بارئها يوم الأربعاء 30 نوفمبر 1988، ودع الحياة مصحوباً بشفاعة القرآن لصوته العذب الذى ردده فى بيوتنا، صوته فى كل منزل.
اقتران صوته بصوت بلال
كلنا يعرف أن بلال بن رباح مؤذن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد اقترن صوته بصوت بلال واختمر ذلك لدى المخرج السينمائى العربى الأشهر مصطفى العقاد فى فيلم «الرسالة»، فكان يستعذب صوته ويأنس له، وسجل الشيخ عبدالباسط صوت الأذان فى الفيلم على لسان بلال، والعبارة الشهيرة لرسولنا الكريم «أرحنا بها يا بلال».
أيام فى حياته
عندما وصل الشيخ محمد سليم حمادة إلى أرمنت كانت لحظة سعادة عندما أقام له أهل أصفون والمطاعنة القريبة من أرمنت عبر جمعية لتحفيظ القرآن وعمره لم يصل «15 عاما» ذاع صيته فى حضرة الشيخ سليم الذى اختصر الطريق للفتى لدخول الإذاعة.
وعندما انتقلت الأسرة إلى السيدة زينب واعتمد فى الإذاعة، تم اختياره بعد تعيينه قارئاً فى مسجد الحسين، وهنا هيمن على مزاج المصريين وأصبحت ليلة السبت فى إذاعة البرنامج العام موعداً مقدساً من الثامنة حتى الثامنة والنصف ولا يقطع نغم تلاوته إلا صوت صبرى سلامة أو بديعة رفاعى بقرب نشرة أخبار الثامنة والنصف.
سفير القرآن
بدأت رحلاته إلى الخارج للدول العربية أو جنوب شرق آسيا فى أندونيسيا وباكستان، وانهالت عليه دعوات الملوك والرؤساء.
وصل الأمر إلى أن الرئيس الباكستانى خرج لاستقباله فى المطار، وفى جاكرتا احتشد الآلاف فى أكبر مساجدها للاستماع إليه، وفى جنوب أفريقيا التف حوله الصحفيون وكان معه بلدياته ابن الرزيقات الشيخ الرزيقى صديقه وسألوه عن رأيه فى التفرقة العنصرية.
وقرأ عبد الباسط عبد الصمد فى اشهر مساجد العالم لكن اشهرها وافضلها على الاطلاق الحرم الشريف والمسجد النبوى الشريف والمسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمى بالخليل والمسجد الأموى بدمشق، بالإضافة إلى المراكز الإسلامية فى آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، ومن أشهر من سجل تلاوة القرآن الكريم التى سجلت بالحرم الملكى والحرم النبوى ولقب بـ «صوت مكة» وأول نقيب للقراء عام 1984.
مكرم عبيد يحمل رسالة من ضياء الحق
كان الرئيس السادات قد أوفد بلدياته القناوى فكرى مكرم عبيد إلى باكستان، وبعد انتهاء الزيارة قال له الرئيس الباكستانى سأسلمك الرد على رسالة الرئيس السادات رسمياً معك، أما أنا فلى رسالة خاصة شفوية لأعز أصدقائى عبدالباسط عبدالصمد، إننى أعتز به وأحملكم رسالة شخصية معكم.
علاقة قوية ناصر والسادات
أعجب الرئيس جمال عبدالناصر بصوته وارتبطا بعلاقة ود وطلب منه الحضور فى جميع الاحتفالات التى كان أهمها حفل افتتاح المرحلة الأولى للسد العالي، ومع الرئيس السادات حضر احتفالات انتصارات أكتوبر وحضر حفل السادس من أكتوبر الذى اغتيل فيه الرئيس السادات وغادر الحفل بعد القراءة مباشرة لارتباطه بسفر خارج القاهرة.. كان الشيخ عبدالباسط على علاقة قوية بأهل القمة وبينهم العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ.
أسرة عبدالباسط
تزوج الشيخ عبدالباسط من ابنة عمه وعمره «19 عاماً» وأنجب منها ١١ وهم: محمد وجمال وخالد وطارق وعصام وهشام وياسر وسعاد وفايزة وأزهار وسحر.
يقول طارق عبدالباسط: كلنا من حفظة القرآن وطارق عبدالباسط من قراء التلاوة فى مسجد مصطفى محمود وياسر من القراء فى مسجد الإمام الشافعى وعضو بنقابة القراء، وأسرته الآن تضم أكثر من 33 حفيداً.
الوفاة
من مولده فى يناير 1927، إلى وفاته فى 30 نوفمبر 1988، رحلة مهمة فى رحاب القرآن الكريم، جاب بها العالم حاملاً كتاب الله، وبوفاته فقدنا قيمة شامخة ستظل خالدة بما تركته من مكتبة قرآنية مسجلة بصوته مرتلاً للقراء تتناقله الأجيال، فقد كان صوتاً مميزاً ونادراً، سافر إلى أكثر من 70 دولة حول العالم بهدف قراءة القرآن الكريم.. وعندما أصابه مرض الكبد- كما يقول نجله الشيخ طارق- إن الشيخ عبدالباسط عندما أصيب بهذا المرض سافر بناء على نصيحة د.إبراهيم بدران وزير الصحة الأسبق للعلاج، وكان يشرف على علاجه د.ياسين عبدالغفار العالم المصرى فى أمراض الكبد، وفى مستشفى كروميل وكان يرافقه ابنه طارق، لكن بعد أسبوعين من العلاج طلب العودة إلى مصر وقال سأموت فى بلدي، وبعد العودة بأيام فاضت روحه إلى بارئها فى 30 نوفمبر 1988 وأسدل الستار على حنجرة ذهبية فى دولة التلاوة وقراءة القرآن الكريم عبدالباسط عبدالصمد الذى لقب بصوت مكة وبسبب حب الناس له انتشرت مدارس قرآنية عديدة باسمه حول العالم .
شيعت جنازته من مسجد مصطفى محمود بالمهندسين وأقيمت ليلة العزاء فى الحامدية الشاذلية القريبة من المهندسين، وللمصادفة أن آخر ليلة أحياها الشيخ كانت قبل وفاته بشهر فى حى السيدة زينب نفس الحى الذى ذاع منه صيته عندما قرأ فيه أول مرة فى مولد السيدة زينب، وأحيا ليلة القراءة عليه رفيق دربه الشيخ أحمد الرزيقى وعدد من زملائه القراء.