الحديث عن الإمام الأكبر الراحل الدكتور عبدالحليم محمود، يجعل الذاكرة الحية تستعيد مآثر عالم أزهرى جليل له رحلة مميزة مع العلم والإيمان منذ طفولته فى قريته الصغيرة قرية أبوالحمد ببلبيس محافظة الشرقية التى ولد بها فى 12 مايو 1910 الموافق 2 جمادى الأولى 1338 هـ.
خطا خطواته الأولى فى هذه القرية وسط أسرة عرفت بالتقوى والصلاح، وأراد والده أن يتعلم بالأزهر الشريف ليكمل الطريق الذى بدأه فى التعلم بالأزهر ولم يكمل دراسته به.. شغفه بالتعليم كان وراء سفره إلى باريس عاصمة النور بعد حصوله على العالية سنة 1933 وكان سفره على نفقته الخاصة وليحصل على الدكتوراة فى التصوف الإسلامى وسط أحداث الحرب العالمية الثانية بعد شهور من اندلاعها وذلك عام 1940.
العودة إلى مصر ألحقته بالعمل فى كلية اللغة العربية ليدرس علم النفس، وتولى العديد من المناصب فى رحلته منها وكيلاً للأزهر الشريف ووزيراً للأوقاف وشئون الأزهر، إضافة إلى إنتاجه الغزير من الكتب فى التصوف والفلسفة، التى تجاوزت 60 مؤلفاً وكان كتابه «أوروبا والإسلام» واحداً من الكتب المستنيرة التى تعكس واقع أوروبا، وأحدث ضجة كبيرة عند صدوره وكذلك مؤلفاته السخية «القرآن والنبى» والمدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبوالحسن الشاذلى.
لفت الشيخ عبدالحليم محمود العالم الرصين الانتباه، عندما تولى أمانة مجمع البحوث الإسلامية الذى حل محل جماعة كبار العلماء، وقتها لأول مرة يتم تكوين جهاز فنى وإدارى للمجمع من خيار رجال الأزهر وإنشاء مكتبة علمية كبيرة نجح فى تزويدها بنفائس المؤلفات عبر أصدقائه، وكان وراء انتظام عقد مؤتمرات المجمع وإنشاء مقراً مميزاً له فى مدينة نصر بضاحية القاهرة، كما يحسب له أثناء توليه وزارة الأوقاف اهتمامه بضم المساجد الأهلية للوزارة وتجديد المساجد التاريخية ومنها مسجد عمرو بن العاص أقدم مساجد أفريقيا وأنشأ هيئة لإدارة الأوقاف وساهم بدور مميز وكبير فى التقريب بين المذاهب.
من مواقفه التى نتذكرها، فى 27 مارس 1973م، 22 صفر 1393هـ بصدور قرار تعيينه شيخاً للجامع الأزهر، أنه فوجئ بقرار فى 17جمادى الآخر 1394هـ الموافق 7 يوليو 1974 بقرار وهو القرار الذى منح وزير الأوقاف بعض الاختصاص الذى اعتبره أنه يجرد شيخ الأزهر من اختصاصاته وكانت الاستقالة مع طلب بتسوية معاشه.
هنا أحدث دوياً كبيراً بين علماء العالم لمكانة الأزهر الشريف فى العالم الإسلامى، وتمت العودة فى القرار وصدر القرار المعدل بأن يعامل شيخ الأزهر معاملة خاصة وهو ما عدل بعد ذلك لكنه بمساواة منصب شيخ الأزهر برئيس الوزراء، الذى صدر بعد وفاته.
معارك كثيرة خاضها الإمام الأكبر عبدالحليم محمود، ولعل أبرزها مواجهته لقرار وزير الشئون الاجتماعية عائشة راتب الخاص بالأحوال الشخصية وهو القانون الذى تضمن قيوداً على الزوج على خلاف ما تقرره الشريعة، وواجه القانون ببيان شديد اللهجة، معتبراً أنه خروج على تعاليم الإسلام.. ورغم أن البيان لم ينشر إعلامياً، إلا أن الجهات المسئولة أمام ما تسرب حوله نفت أن يكون هناك تفكير فى تعديل قانون الأحوال الشخصية.
كانت له مواقفه الواضحة ضد الجماعات المتطرفة ومنها التكفير والهجرة ودور الأزهر فى نشر الإعلام الوسطى، وله دوره فى التوسع فى إنشاء المعاهد الأزهرية وتطوير جامعة الأزهر لاستقبال أعداد كبيرة من حملة الثانوية بالمدارس، وربط الأزهر الشريف بقضايا عالمنا العربى والإسلامى والأحداث فى الأراضى الفلسطينية المحتلة والأوضاع فى العالم العربى والإسلامى، وكانت حياته حافلة بالنشاط والإحساس بمسئولية رجل الدين الأزهرى وجلال منصب الإمام الأكبر شيخ الأزهر، وزار العديد من بلدان العالم وقوبل بحفاوة كبيرة تليق بمكانة الأزهر الجامع والجامعة التى ينتشر طلابها فى كل العالم.
قام بأعمال جليلة فى خدمة الإسلام والمسلمين وقضاياه، وكانت رحلته الأخيرة إلى الأراضى المقدسة فى السعودية، وبعد عودته تعرض لأزمة صحية أجرى على اثرها عملية جراحية ولقى ربه بعدها فى يوم الثلاثاء 15 من ذى القعدة قبل الحج بنحو 25 يوماً، 17 أكتوبر 1978، توفى بعد أن ترك كثيراً من الأعمال والمؤلفات التى خدم بها رسالة الإسلام الوسطى، فقد كان رجلاً محباً لوطنه، وفى خلال الإعداد لحرب أكتوبر 1973 وأثناء زيارته للجبهة، كان يفكر جلياً فى ارتداء الملابس العسكرية والتدرب على حمل السلاح لتحرير سيناء، وحشد علماء المسلمين حول العالم للمشاركة فى تكوين رأى عام عالمى ضد العدوان الصهيونى، وكانت الدموع تخرج من عيونه وهو يحث الجنود على أهمية الدفاع عن تراب الوطن، وكان يعود من الجبهة مسروراً بروح الجنود العالية للدفاع عن الوطن، ويوم العبور جلس فى مكتبه يدعو أن ينصر الله جيشنا أمام الأعداء، وفى لقاء مع الرئيس السادات فى المشيخة بجوار مسجد الإمام الحسين وتحدث معه عن العبور، فقال له: يا ريس لا تخف لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبر قناة السويس أمام جند مصر.. وساعتها ابتسم السادات، وقال له: الله يفعل ما يشاء يافضيلة الإمام، دعواتكم يا شيخ عبدالحليم.. ويقول القريبون منه يوم العبور ومنهم د.محمد أبوهاشم: ساعة العبور كان مسروراً وتفرغ للدعاء لجنودنا بالنصر المؤزر.
خلال حرب أكتوبر المجيدة وكان له زيارات كثيرة للجبهة، قرر أن يلقى خطبة الجمعة الأولى بعد العبور من منبر الأزهر الشريف، وقص رؤيته التى أبلغ بها الرئيس السادات وكانت خطبة الجمعة مذاعة فى الراديو والتليفزيون وبشر فيها بالانتصار الكبير، وروى قصة الرؤيا للسادات قبل العبور بأشهر وكانت خطبة الجمعة بعد يوم واحد من معركة المنصورة أحد أهم معاركنا الجوية فى المواجهة مع طيران العدو، وقد أبلى طيارونا بلاءاً حسناً فيها.
كان لرؤيا الشيخ عبدالحليم محمود بالنصر المؤزر، تأثير كبير على أبنائنا الجنود فى قواتنا الباسلة، وكان ملخص الرؤيا أن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يزوره فى منزله ومن ثم خرجنا وسألت إلى أين؟!، فقال إلى الجبهة.. هذه الرؤيا قبل العبور بأشهر وتحققت يوم العاشر من رمضان وجنودنا يهتفون «الله أكبر» وحدث العبور وكان يظن البعض أنه مستحيل.
النشأة والدراسة
نعود إلى نشأة العالم الجليل فى قرية أبى أحمد فى 12 مايو 1910 وسط عائلة سليلة علم فى بلبيس بالشرقية، وكان والده من الدارسين بالأزهر على يد كبار علمائه، ومن هنا حرص على أن يلتحق بالأزهر ليكمل مشواره، والتحق بالأزهر عام 1923 وعندما افتتح المعهد الأزهرى بالزقازيق عاصمة الشرقية عاد من القاهرة ليلتحق بالمعهد الجديد، ثم التحق بمعهد المعلمين المسائى ونجح فى المعهدين، وتم تعيينه مدرساً، لكن والده كان قد قرر أن يكمل تعليمه، وبالفعل تقدم لامتحان الثانوية الأزهرية ونالها عام 1928 ليستكمل دراساته العليا حتى نال العالمية 1932، وفى أثناء رحلته مع العلم تأثر بالإمام محمد عبده كوالده أيضا.
للدكتور عبدالحليم محمود شقيقان، هما مهدى وعبدالغنى، شقيقه مجدى واصل تعليمه حتى نال الاجازة العليا والدكتوراة وانتدب فى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، أما عبدالغنى فكان إماماً بالأوقاف وتولى منصب مدير الأوقاف بالشرقية، وشاء الله أن الشقيقين مهدى وعبدالغنى لم ينجبا.
أنجب الشيخ عبدالحليم ولدين هما الدكتور منيع عبدالحليم محمود وكان من رجال الأزهر الشريف ومن خريجى كلية أصول الدين الذى تدرج فى الوظيفة بها حتى وصل إلى منصب عميدها، أما الابن الثانى فكان فى السلك الدبلوماسى وتزوج من ليلى كريمة الدكتور محمد حسين هيكل.
عندما سافر الشيخ عبدالحليم إلى باريس للتعرف على تاريخ الأديان والفلسفة وعلم الاجتماع واختار موضوع رسالته «أستاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبى»، وتصادف أثناء الدراسة أن قامت الحرب العالمية الثانية عام 1939 وهرع كثير من زملائه من جميع الجنسيات بالعودة إلى بلدانهم، لكنه حرص على إكمال رسالته للدكتوراة، وبالفعل حصل عليها وسط اشتعال الحرب وباريس تضرب بالطائرات الألمانية، وفى 8 يونيو 1940 حاز على الدكتوراة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وكان قرار الجامعة الفرنسية طبع الرسالة، ثم عاد إلى مصر ليواصل عمله فى كلية اللغة العربية متدرجاً فى وظائفها، ثم انتقل قبل ثورة يوليو وتحديداً عام 1951 إلى كلية أصول الدين التى تولى عمادتها عام 1964 وهنا بدأت تسلط عليه أضواء العلم وشعاعه المعارفى وإصداراته الغزيرة بكتب ومؤلفات فى كل القضايا وأسند إليه الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية الذى نهض بها بشكل مؤسسى.
وفى عام 1970 صدر القرار الجمهورى بتعيينه وكيلاً للأزهر الشريف، وقبل حرب أكتوبر وتحديداً فى 27 مارس 1973 أصدر قرار تعيينه شيخاً للأزهر الشريف، وكان مرتبطاً بعلاقة ود مع الرئيس محمد أنور السادات، وكان للشيخ موقف واضح بشأن مسرحية «الحسين» للكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى، وحاول البعض الهجوم عليه وانتقاده، لكنه كان هادئاً وحكيماً، وهنا يذكرها الشيخ الدكتور محمد أبوهاشم فى مقال طويل حول معركته مع اليسار بسبب المسرحية، وتدخلت على خط المعركة مجلة «آخر ساعة» والكاتب الكبير رشدى صالح بالدفاع عن الإمام الأكبر، ولن ينسى جنود مصر أن الشيخ عبدالحليم محمود كان قائد التعبئة الروحية لجنودنا فى حرب أكتوبر المجيدة، وعندما عبر جنودنا تفرغ للدعاء وذهب إلى الجامع الأزهر الشريف وألقى خطبة كان لها بالغ الأثر لدى الجماهير.
مع الرئيس كارتر
للإمام الأكبر الراحل الشيخ عبدالحليم محمود مواقف كثيرة مشهود بها، فهو من أبرز علماء الإسلام المجددين خلال المائة عام الأخيرة ولقب بإمام الصوفية الذى يحمل الرقم «42» بين مشايخ الأزهر، وقد برزت مواقفه فى أنه أول شيخ للأزهر الشريف يزور الولايات المتحدة فى بداية إقامة جسور التعاون بين الأزهر والمؤسسات الأمريكية، واستقبله الرئيس الأمريكى كارتر وكان يرافقه شيخ المقارئ المصرية «الحصرى»، وأثناء اللقاء قال له الرئيس كارتر عندما طلب منه أن يسمع صوته وهو يقرأ القرآن موجهاً كلامه عبر الشيخ عبدالحليم للشيخ الحصرى، فوعده بإرسال مسجلاً كاملاً وتناول اللقاء حديثاً طويلاً حول عقد مؤتمر صحفى تحدث فيه عن الإسلام وسماحته، وأثناء جلوسهما بحضور السفير أشرف غربال أعجب كارتر بالسبحة فقدمها له هدية وقبلها بعد أن سأل عن ثمنها وأنها أقل من مائة دولار، وفى أمريكا بنفس الرحلة زار مجمع الأديان فى لوس أنجلوس وأيضا قرأ الشيخ محمود الحصرى بعضاً من آيات القرآن الكريم خلال الزيارة.
لا يحمل مالاً
كان الإمام الأكبر عبدالحليم محمود لا يحمل المال، بل كان يودعها مع أحد مرافقيه ليتولى الصرف والإنفاق، لأنه لا يحمل نقوداً، فقد كان عالماً متصوفاً كأفضل ما يكون التصوف الذى أمر به الشرع، وكان بابه مفتوحاً دائما لطلاب العلم فى مكتبه أو بيته.
زواج ابنه محمد
الدكتور محمد عبدالحليم محمود ابن الإمام كان يدرس فى باريس للحصول على الدكتوراة وتزوج الدكتورة فايزة محمد حسين هيكل أستاذ الآثار بالجامعة الأمريكية، عام 1965 وكانت تدرس فى انجلترا، وكان الدكتور محمد عبدالحليم محمود زميلاً لشقيقتها والتقاها فى باريس، حيث تم التعارف واستمر الزواج حتى عام 1979 حتى وفاته وأنجبا فاطمة وحسين، وكانت تعيش معه فى أسفاره بالسلك الدبلوماسى فى سوريا وتونس وتركيا وغينيا وروما، وكانت علاقته بالإمام بها مودة وصداقة وحنان، فالفرق بينهما أقل من 20 عاماً، حيث تزوج الإمام صغيراً، وأكدت أن د.محمد كان يترجم لوالده، فقد ساهم فى ترجمة وتصحيح القرآن إلى اللغة الفرنسية مع الإمام الأكبر، وكان الإمام عبدالحليم محمود قد ترجم فى بداية حياته قصة من تأليف أندريه موروا، التى أشاد بها الأديب الكبير طه حسين.
رؤية النصر
فى لقاء مع الرئيس محمد أنور السادات وكان وقتها الاستعداد للحرب على قدم وساق، قدم البشرى للرئيس.
أئمة لهم أثر فى حياته
تتلمذ على يد أئمة كثيرين وتأثر بهم، منهم الإمام محمد عبده والشيخ محمود شلتوت والشيخ حامد محيسن والإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى وغيرهم من الأئمة.
الوفاة
بوفاته، فقدت مصر والعالم الإسلامى عالماً جليلاً يحمل رقم «42» بين شيوخ الأزهر الشريف كان موت فضيلة الإمام الأكبر الإمام الزاهد، إثر هبوط مفاجئ فى الدورة الدموية، نتج عنه نزيف حاد فى المخ.
اجرى قبل الوفاة بأيام الزواج المبكر عملية جراحية فى مستشفى الشبراويشى لاستئصال المرارة، وكان يشكو منها لمدة طويلة، وقد أجريت بنجاح قبل وفاته بنحو أسبوع على يد الدكتور ابراهيم بدران وزير الصحة الأسبق، وظل بجواره ومتابعته، وفجأة أحس الإمام بالتعب، فتم استدعاء الدكتور بدران وظل بجواره مع عدد من الأطباء بينهم عبدالمنعم أبوالفضل أستاذ التحاليل، وأنور بلبع رئيس جراحة بطب قصر العينى، وصلاح ابراهيم رئيس جراحة الأمراض الباطنية بطب الأزهر، وعند الساعة السابعة يوم 7 أكتوبر 1978 بعد الفجر بنحو 3 ساعات لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يردد «لا إله إلا الله، الله الحق»، وكانت هذه آخر كلمات الإمام قبل وفاته والأطباء محيطون بسريره فى مستشفى الشبراويشى.
بمجرد إذاعة الخبر، أناب السادات فضيلة الدكتور عبدالرحمن بيصار وزير الأوقاف وشئون الأزهر فى تشييع الجنازة، وتمت الصلاة عليه فى الجامع الأزهر عصر نفس اليوم بمشاركة حشود كبيرة من المواطنين والمسئولين يتقدمهم حسنى مبارك نائب الرئيس وقتها، ومصطفى خليل رئيس الوزراء، وحسن كامل رئيس الديوان، وعدد كبير من الوزراء والسفراء العرب والعالم الإسلامى ومفتى الجمهورية الشيخ جاد الحق على جاد الحق، وممثلو الكنيسة، ورؤساء الجامعات والكليات، واللواء محمد نجيب الرئيس الأسبق، وحسين الشافعى نائب الرئيس السابق.
بعد الصلاة، حمل الجثمان إلى سيارة نقل الموتى إلى قرية السلام فى بلبيس، حيث مسجده والضريح الذى دفن به، وكان نبأ وفاته متصدراً الإذاعات فى العالم العربى والإسلامى.