أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن… ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال؛ بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحدًا سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعاً من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء.
..وظل البطل أسابيع وشهوراً عدة على هذا المنوال غير عابئ بتحذيرات العدو الصهيونى من خلال مكبرات الصوت فى شوارع سيناء من التعاون مع الجيش المصرى، وترددت التهديدات التى مفادها بأن أياً من أبناء سيناء سيقدم أى شكل من أشكال المساعدة للجنود المصريين سيعرض نفسه للسجن والاعتقال، وبالطبع طال التهديد عوائل الشباب السيناوى الذى لم يكترث بتراهات العدو، وحتى شهر نوفمبر من عام 1967 كان يقوم الشاب عبد الله مع رفاقه من أبناء سيناء بإيواء الجنود والضباط وإخفاء تحركاتهم، وكان ينظم عمليات رعى الأغنام خلف تحركات الجنود مع الدليل حتى يمحو الأثر ويزيل الجرة، فلا يستطيع العدو الصهيونى رصد تحركات المصريين الجنود أو الأدلة، واستعان بعدد من الفتيات السيناويات اللائى لا يقللن وطنية ولا تنقصهن الشجاعة ليقمن بأعمال الإخفاء والتمويه لتحركات القوات والدليل، وبلغ عددهن فى هذه الأثناء ثمانى عشرة بطلة من بطلات سيناء، ومنهن البطلة وداد حجاب والبطلة فاطمة عيد سليمان وغيرهن.
استمر عبدالله على هذا النحو طيلة أربعة أشهر حتى تلاشت تقريبًا علامات تجمعات الجنود المصريين، وكان هذا هو هدفه الأول؛ وهو الحفاظ على القوات المصرية ولو كلفه ذلك حياته، وأما الهدف الثانى فكان البحث عن طريق آمن يستطيع من خلاله معاونة الجيش المصرى ويكون عينه وسمعه فى سيناء، ومن خلال علاقة الأخوة التى نشأت بينه وبين أحد الضباط العائدين وهو النقيب –حينها– عادل فؤاد الذى ظل مقيمًا لدى عبدالله فى منزله لعدة أسابيع؛ حيث كانت المكافآت التى يعلن عنها جيش الاحتلال نظير الإبلاغ عن الضباط كبيرة، وأيضًا كان العقاب أشد لمَن يخبئ الضباط، كما أن النقيب عادل أراد البقاء حتى يطمئن على رحيل جنوده وضباط الصف التابعين له كافة، وسمحت تلك الفترة بإقامة علاقة أخوية كان أصل ميلادها عند النقيب عادل ما شاهده فى عبدالله من انتماء حقيقى للجيش المصرى وخوفه الشديد على أفراده وكأنه واحد منهم، وبالفعل انطلق هذا السؤال من النقيب عادل لعبدالله: «ممكن أسألك يا عبدالله أنت بتساعدنا ليه؟ وقلبك علينا أوى كده ليه؟ مش خايف من الاعتقال والتعذيب لو اكتشف العدو أنك بتساعد عناصر الجيش المصري؟
وكمان بتأوى فى بيتك نقيب من القوات المصرية؟ «وكان رد عبدالله السريع والتلقائى: «آديك جُلت بلسانك إنهم أعداء، كيف بالله عليك على الإنسان الحر ينصاع لتهديد الأعداء ويترك ابن بلده وأرضه، هى محنة يا خيى حتعدى وحييجى يوم نتحاكى على اللى عملوه كل راجل منا، وأنا بعمل اللى يخلينى أدام نفسى – أولاً – راجل».
ومرت أيام تجاوزت العشرين بقليل وما كان من عبدالله والنقيب عادل إلا اقتسام المأكل والمشرب، بل كان عبدالله يقدم احتياجات عادل على حاجاته ويؤثره على نفسه، وعندما حانت رحلة عبور النقيب إلى الغرب كان عبدالله هو دليله عبر مسارب وطرق وعرة للغاية لا يعلمها إلا الواعون بأسرار سيناء جيدًا، وعندما طالت مدة المرور من سيناء ناحية الملاحات، سأل النقيب عبد الله رفيقه: «قل لى يا عبدالله: ليه المرة ديه بالذات المسافة أطول وزمن الوصول للغرب أكبر من الرحلات السابقة لمجموعات الجنود؟!» ورد عبد الله: «بصراحة لأمرين: أول هام، هو أنى خايف يكون الصهاينة رصدوا تحركات الجنود وجالوا ننتظر لحين ظهور الجائد، وده سبب أنى أخذتك من طريق غير الطرق السابجة، وتانى هام: أنى حتوحشك يا خيى وخايف ما نتلاجاش من تانى، فحبيت أطول الوقت معاك شوية، ما أنت خوى اللى باين ما اجابلوش تاني!» وتدمع عين النقيب والشاب، وبعد عناق طويل يربت كل منهما على كتف الآخر، يقول النقيب عادل وهو يشد على يد عبدالله وكأنه يعاهده: «إن شاء الله حنتقابل.. حنتقابل وكتير كمان يا عبدالله، وعمرى ما حنسى إنك كنت بتقدمنى على نفسك فى كل طيب عملته معايا…»، وينظر طويلًا ناحية الشرق، حتى يلتفت خطوة تليها خطوات، وكأنه يعود من ناحية قدومه، ويعود خلفه رفيق دربه عبدالله، ويمد بيده على كتف النقيب عبدالله ويمسكه بشدة وكأنه يرد العهد عليه هو الآخر بدوره: «جسمًا بالله لتعود يا غالى وحياتى تهون أنا واللى معايا لجل ترجع ويرجع معاك رجالة الجيش المصرى، وخُده على خيك عهد وجسم»، ويشده ليعتدل إلى طريقه ناحية الغرب، وقبل أن ينزل إلى الفلوكة على هيئة صياد يخرج الشيخ عبدالله كيسًا بلاستيكيًّا به أفرول النقيب وسلاحه ويربطه بالفلوكة ويقول لرفيقه: «حفظتهم لك زى ما هم بالعين يا خوى، لجل ما ترجع بيهم لسيناء من تانى». ويلقى بالكيس إلى المالح وكأنه يأتمنه على سره، ويعود الشيخ عبدالله لتجهمه وغلظته: «من غير وداع يا سيادة النقيب، سلام وفى أمان الله».
وما كانت سوى ثلاثة أسابيع ويتصل عبر وسيط النقيب عبدالله بالشيخ عبدالله ليعلمه على مهمته التى كان يحدثه عنها ويحلم بها؛ فقد تكلف بتقسيم مجموعتين لا يعرف بعضهما بعضًا، واحدة لتصوير مواقع العدو وتحركاته، والثانية لجمع المعلومات المطلوبة بدقة متناهية.