بحق السماء: ماذا يجرى حولنا؟ هل خذَلَنا تاريخُنا؟ أم كانت الجغرافيا هى الداء والدواء؟ إقليم بائس وكل ما يدور فيه أمامنا يبشر بنكسات متناغمة، تابعنا كثيرًا من التصريحات التى تبشر بشرق أوسط جديد، وربما كبير أيضًا، وهنا نطرح مجموعة من الاسئلة المستفزة والجارحة فى آن واحد، من صنع الشرق أوسط بشكله الحالي؟ كيف تم رسم الخريطة الحالية ولماذا؟ هل وُضِعت لبِنات المشاكل الجارية والمشتعلة عن عمد؟ من صاحب الكلمة الفاصلة فيما يجرى الآن بالإقليم؟ وقبل أن أجيب عن هذه التساؤلات المهمة أطرح تساؤلاً آخر أكثر أهمية، هل تستطيع المنطقة وفاعلوها اعادة ترتيب أوضاعها بمفردها؟ الحقيقة ان من زرع إسرائيل فى المنطقة وقام باختراع وتصميم وتشكيل عدة دول وظيفية فى الإقليم هو الذى يملك كلمات السر الدليلية التى تصل من خلالها إلى ملامح التسمى الجديد، هذا الإقليم الذى كان معظمه عبارة عن مجموعة من المستعمرات العثمانية تحت عباءة ممزقة اسمها الخلافة الإسلامية ولم يكن هناك ما يربطها بالخلافة شكلا ومضمونا، تعرضت بعض دول الإقليم إلى مستعمرات مزدوجة عثمانية اصلية ومتجذرة فى المجتمع بمادة لاصقة اسمها الخلافة وأخرى أوروبية تغرى تلك المجتمعات بالحداثة والجنان الموعودة، وعندما ارادت شعوب الإقليم الاستقلال كان عليها خلع عباءتين فى آن واحد، العباءة العثمانية والعباءة الإمبريالية الغربية، انشطرت المجتمعات فكريًا وثقافيًا ودب الخلاف بين مدرستين كلتاهما يدعم احد المستعمرين، فدعاة الأصولية المدعاة فى مواجهة دعاة الحداثة المدعاة ايضا، وقفت الشعوب فى حيرة من امرها، لم يكن للدولة الوطنية صوت يدافع عنها وسط هذا التشتت التوعوي، اخترعت بريطانيا فكرة القومية العربية فى بلاد الشام لمجابهة العثمانيين وانتقل المفهوم إلى مصر التى كانت ملامح الدولة الوطنية فيها قد بدت فى التشكل فى منتصف القرن الماضي، كانت الأجواء مثالية لزرع الكيان الصهيونى فى رحم الأمة دون ان تستطيع المقاومة، ومع مرور الوقت وفشل معظم الدول العربية فى صياغة أولوياتها، ومع وجود ما يسمى بنتوءات الفتنة على خطوط الجغرافيا والتى تسببت فيها الصراعات الحدودية التى خلفتها سايكس بيكو، نزفت المنطقة وعيا بدون حساب وبدأت تنتشر فى جسد الإقليم فيروسات الأصولية، فالإسلام اختطفه الإخوان ومن خرج من بطونهم وشكلوه بحسب مصالحهم حتى شوهوه تماما ولم يعد هو الإسلام الذى نزل على محمد، تقاسم الفرس بعضا من الأصولية وقاموا بثورتهم الإسلامية وحولوا ايران بحضارتها الفارسية العظيمة إلى مجرد دولة يحكمها فقيه معمم، إسرائيل وجدت ان الأصولية قادرة على اجتذاب الناس من كل صوب وحدب محصنين بعقائد يتم تشكيلها بحسب الحالة، نجحت إسرائيل فى تحويل صراعها مع الفلسطينيين إلى صراع ديني، وتحول المشهد إلى ما يسمى « صراع الأصوليات « الأصولية الإسلامية السنية ويمثلها الإخوان وأذرعهم فى حماس والقاعدة وداعش والأصولية الإسلامية الصفوية الشيعية ويمثلها ايران وحزب الله والجهاد الإسلامى وجماعة الحوثى والحشد الشعبى العراقي، والأصولية اليهودية التى صنعها حاخامات السياسة الصهيونية وتلقفها شارون وبيريز واليوم ينادى بها نتنياهو والذين معه، تحولت المنطقة إلى منمنمات ميليشياوية وتنظيمات من دون الدولة الوطنية، اليوم نجد من يرفع نداء اعادة تشكيل وصياغة الشرق الأوسط والإقليم على أسس جديدة، لقد حاول بوش الابن وفشل وحاول شارون وبيريز واليوم نرى نتنياهو، فهل فكرة «شرق اوسط جديد « فقط تخرج من افواه الساسة الاسرائيليين والأمريكيين من دون العرب والترك ؟ بيد ان محاولة اعادة تشكيل الإقليم الآن وفى هذه الحالة يمثل خطيئة تاريخيّة لن تجعل من هذه المنطقة إلا ساحة للصراعات الدينية والسياسية، لذلك فأى حديث عن اعادة تشكيل الشرق الأوسط الان هو إعلان جديد لصراع جديد لن ينتهى فى القريب العاجل، وسط كل هذا الجدل الدائر والدجل الذى يحيط بالعقول نجد مصر الدولة الوطنية الوحيدة التى تراقب بوعى وتتدخل بحكمة وتوجه ببراعة، مصر تعلم ان الموجة الحالية من الصراعات تمثل امتداداً طبيعيًا مستترًا لاتفاقيات سايكس بيكو، بيد اننا على مشارف اتفاقيات جديدة بأسماء جديدة قد تكون «ترامب – بيبي» أو «هاريس – جانتس» أو أى أسماء جديدة لهؤلاء الفاعلين الإمبرياليين لخدمة دولة الكيان الإسرائيلي، لذلك نحن نعيش لحظة فارقة تحتاج مزيداً من الوعى والحكمة والصبر والقوة ولا ننزلق فى اتفاقات ومعاهدات وتقسيمات ستدفع الأجيال القادمة ثمنها غالِ مثلما دفعنا نحن أثمانًا باهظة لاتفاقات المستعمرين بالأمس سايكس/بيكو.