تحليلات كثيرة تناولت تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بشأن غزة، وجدت هناك اختلافًا وانقسامًا فى التفاسير، المؤيدون أنه ليس هناك تراجع من قبل الرئيس ترامب يشيرون إلى أنه تراجع تكتيكى لكن مازال هناك تمسك بالمخطط وأن ما يجرى مجرد مناورات بعد طوفان الرفض العالمى على كافة المستويات خاصة المصرى والعربى، وربما هناك نوايا صهيونية متطرفة وخبيثة لاستكمال حرق الأرض فى قطاع غزة بعد أن باتت مجرد اطلال وركام لكنه قد يعاود استئناف عمل آلة القتل والإبادة فى ظل الحكومة المتطرفة التى يقودها نتنياهو ولم يعد أمامه سوى غزة القشة التى يتعلق بها لإلهاء الرأى العام والمجتمع الإسرائيلى والمعارضة بعد الفشل الذريع والاخفاقات والهزيمة الاستراتيجية وبالطبع يريد انقاذ مستقبله السياسى، وكذلك الابتعاد عن عقوبات جرائم الفشل والفساد فإذا انتهت الحرب، وفشل المخطط فى تهجير سكان غزة سيتفرغ الإسرائيليون لمحاسبة نتنياهو وحكومته، كما أن المماطلات الإسرائيلية فى الالتزام باتفاق وقف اطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن، وتأجيل تسليم أكثر من 600 معتقل فلسطينى، وتهديدات رئيس الوزراء المتطرف، تؤكد نواياه الخبيثة كما أن حالة الاحباط والفشل فى تنفيذ مخطط التهجير بعد تصريحات ترامب، قد تدفع إلى جنون نتنياهو، وهو أمر يجب ان نضعه فى الاعتبار.
الذين يؤكدون أن الرئيس ترامب تراجع بالفعل، وأنا واحد منهم يشيرون إلى أسباب هذا التراجع، لكن فى نفس الوقت يمكن القول إن ردة الفعل المصرية والدولية والإقليمية ساهمت فى هذا التراجع، وهو أمر مرهون بقوة المواقف الحاسمة، وأن فى التهجير خسائر كثيرة للولايات المتحدة، وانتهاء مصالح ستكون أكثر من مكاسبها فى مخطط غزة لكن السؤال المهم، لماذا تراجع الرئيس الأمريكى ترامب عن التمسك بمخطط التهجير وهل تنازل عنه تمامًا؟ وهل رفع السقف يخفى خلفه أهدافاً أخرى؟ وهل هو تراجع أم تأجيل وتعطيل؟ المؤيدون لحديث التراجع الأمريكى عن مخطط التهجير يسوقون بعض الأسباب المهمة أدت إلى تصريحات ترامب التى بدت فى شكل مقترح وتوصية وليس خطة جبرية، تلتزم بها حتى لو استلزم الأمر استخدام القوة، وما الذى جعل ترامب يغير من حدة تصريحاته؟
أولاً: الموقف المصرى الحاسم، والقاطع والرافض ليس فقط ردًا على تصريحات الرئيس الأمريكى ترامب ومطالبته مصر باستقبال الفلسطينيين ولكن منذ بدء العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، لكن مصر أبدت غضبًا شديدًا بشأن التصريحات منذ يناير الماضى والتى تشير إلى تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن، ورفضت بحسم طرح مثل هذه الأفكار فى أية لقاءات وأن الأمر مرفوض جملة وتفصيلاً، ولا حديث فيه، وأن قضية إعادة الإعمار سوف تجرى بلا تهجير للفلسطينيين بل مع بقائهم بمعنى تعمير بلا تهجير، وطرحت رؤيتها على ثلاث مراحل، ولديها القدرة على التنفيذ فى التوقيت المحدد، مع أهمية ادخال المساعدات الإنسانية، والبيوت الجاهزة، والمخيمات لإنقاذ الفلسطينيين فى القطاع من أوضاع كارثية والحقيقة أيضا أن موقف الأردن جاء حاسمًا وقاطعًا ومتسقًا تمامًا مع الموقف المصرى خاصة أن البلدين يستهدفهما مخطط التهجير، والرئيس ترامب تحدث عن استقبال مصر والأردن للفلسطينيين وهو الأمر الذى رفضته القاهرة وعمان بشكل لا تهاون فيه.
ثانيًا: الموقف العربى الواضح والرافض لمخطط التهجير تمامًا، وأشهر العرب سيف الغضب فى وجه إسرائيل، وارتكز الموقف على القوة والقدرة وكثرة الأوراق والمصالح المرتبطة بالعرب، ولعل رسائل الدولة المصرية فى هذا الإطار هى حديث العالم، فقد أكدت القاهرة أن التهجير بالنسبة لها خط أحمر وقضية أمن قومى، ومبدأ اخلاقى، وأنها لا تفرط فى مواقفها وثوابتها مهما كان الثمن، وأنها جاهزة لكل السيناريوهات المحتملة، وأدرك الجميع قوة الموقف المصرى وبالتالى لا يمكن إغضاب القاهرة فالخسائر ستكون كثيرة، والمصالح ستصبح فى مهب الريح، وأرسلت القاهرة رسائل واضحة وحاسمة، كذلك جاء الموقف السعودى قاطعًا حاسمًا وأنه لا علاقات مع إسرائيل إلا بعد إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولا مجال لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة أو التفريط فى حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة والحقيقة أن الموقف العربى، اعاد إلى الذاكرة أن العرب قادرون على صناعة الفارق ومجابهة التحديات والتهديدات مع وحدتهم وتكاتفهم وتضامنهم وهو ما حدث وأثبتوا أننا أمة عظيمة وقوية.
ثالثًا: الموقف الدولى فالإجماع جاء رافضًا ومستهجنًا لمخطط تهجير الفلسطينيين ووصفه بأنه أمر غير أخلاقى أقرب إلى سياسات الغاب، وأنه جريمة تطهير عرقى كاملة، فكيف يمكن أن تطرد شعبًا هو صاحب الأرض من وطنه، أوروبا رفضت بكل دولها، حتى بريطانيا اعتبرته جريمة عنصرية، والصين، وروسيا، والبرازيل والاتحاد الأفريقى، اتخذ موقفًا حاسمًا، والأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيريش، والدول الآسيوية، الحقيقة أن العالم انتفض فى وجه تصريحات الرئيس ترامب، ورفضها بشكل قاطع، وبالتالى فإن الرفض المصرى والأردنى المرتكز على الرفض العربى الشامل، والدولى والإقليمى كان أهم أسباب تراجع الرئيس ترامب وخفض نبرة تصريحاته.
رابعًا: فى اعتقادى أن لعبة وحسابات المصالح ومعايير القوة والقدرة على الفعل أدت إلى التراجع، فالدول الكبرى لا تتراجع إلا أمام أمرين، الأول أن تصبح مصالحها مهددة وأن ما ستفقده أكثر بكثير مما ستربحه من مخطط يؤدى إلى عزلتها، وتهديد مصالحها، ثم إن محاولة اختبار قوة الآخرين، كشفت عن صلابة المارد المصرى، الذى انتفض ولم يبال بأى تهديدات وأعلن أنه جاهز لكافة الاحتمالات ولن يسمح، وادرك الجميع قوة وقدرة الدولة المصرية على الفعل والردع.. وأن مصالح الآخرين مرهونة بعدم غضب أو إغضاب القاهرة.
الحقيقة الساطعة أنه سواء كان هناك تراجع فى مخطط التهجير أو تجميد أو تأجيل قل ما تشاء فالأمر مرهون وسيظل بقوتنا وقدرتنا التى يجب أن نستثمر فيها بأقصى درجة كما فعل الرئيس عبدالفتاح السيسى وأيضا درجة تماسكنا واصطفافنا ووعينا وألا نسمح للأكاذيب أن تنال من وعينا ووحدتنا، لأن الغفلة قد تؤدى إلى التهلكة، لذلك فإن اقدارنا وقراراتنا ومصيرنا فى أيدينا، والحقيقة أن تجربة الرئيس السيسى على مدار أكثر من 10 سنوات اثبتت ذلك «العفى محدش يقدر يأكل لقمته» و«اللى عاوز يجرب يقرب».