جاردن سيتى ذلك الحى الارستقراطى الذى كان وحياً للكتَّاب والمؤلفين لسرد حكايات تلك الأسر العريقة التى عاشت فيه وكأنها أسرة واحدة تجتمع الهوانم أسبوعياً فى جلسات للتعارف تنتقل من بيت لآخر فى نظام متفق عليه لتتباهى الهوانم فى تقديم واجب الضيافة، أما الأزواج وكان غالبيتهم من البشوات والبكوات ورجال الدولة فكانت لقاءاتهم للحديث عن مجالات الاقتصاد والسياسة، وتتزاور العائلات للمجاملة فى الافراح والمساندة فى الأزمات، فتحول هذا الحى المطل على النيل فى إطلالة جمال ورقى إلى مجتمع صغير متناسق.. ولا عجب فى ذلك فقد تحقق بذلك الحى أحد أحلام الخديو إسماعيل بعد عودته من أوروبا حيث درس تخطيط المدن واراد ان ينفذ مشروعه الكبير إلا وهو بناء باريس الشرق أو القاهرة اليدوية فوقع اختياره على منطقة تتوسط القاهرة «وسط البلد» حالياً وضواحيها فكان قراره ببنائها وبعدها الزمالك… وقد فتح الخديوى بذلك الفكر حركة معمارية واسعة لتشييد قصور فخمة على امتداد كورنيش النيل من أشهرها قصر الدوبارة فى جاردن سيتى وقصر فخرى باشا والأميرة شويكار أيضاً وجميعها تعكس خليطاً من المعمار الإسلامى بالتمازج مع المعمار الباريسى والإيطالي. وتعتبر جاردن سيتى شياخة من شياخات حى غرب القاهرة، وشيد الحى بحيث تكون شوارعه كلها دائرية وهو طراز المدرسة الإنجليزية فى تخطيط المدن ومن المعروف ان الدائرة أحد الأشكال الهندسية التى ليست لها بداية او نهاية بمعنى ان آخر نقطة للنهاية تلتقى عند نقطة البداية، الأمر الذى ميز شوارعها، وقد وضعت قيود للبناء فى الحى حيث لا يزيد ارتفاع المساكن فيها على خمسة طوابق وتقع كل العمارات داخل حديقة صغيرة أو متوسطة محاطة بسور من الحديد الاسود الذى تطل من ورائه أشجار الكافور العملاقة، وقد سميت بذلك الاسم وهو ترجمة للتعبير الانجليزى «المدينة الحديقة» الذى يترجم طبيعته حيث كان يتم استيراد الزهور النادرة له من إيطاليا مثل الجازوينا أو البانسيه والتوليب الفرنسى وعصفور الجنة من النمسا وكذلك بذور أشجار الكافور.. وقد تميز هذا الحى الذى أطلق عليه فى احدى الفترات اسم جزيرة «أروى» بمحلات بيع الزهور، ومن طرائف تلك العائلات الارستقراطية انه كان هناك اشتراك شهرى يسدد لمحلات الزهور لترسل أسبوعياً للمنزل باقة زهور منسقة، ولم تتوقف تلك العادات على اشتراك الزهور فقط بل ان أشهر محلات الحلوى فى ذلك الوقت «جروبى» كان يرسل لهم صباحاً الخبز الفرنسى بأنواعه والألبان والجبن والحلوى باشتراك يختاره رب الأسرة لتوصيل احتياجات المنزل اليومية.. ومن أشهر عمارات الحى عمارة سيف الدين وعمارة شويكار التى شيدت بجوار قصر الاميرة شويكار، ومن الممكن القول انه شيد على انقاض القصر العالى الذى كان يتبع الأملاك الخديوية وكانت مساحته 50 فداناً من الأبنية والحدائق بالإضافة إلى سرايتين من أملاك الوالى إبراهيم باشا كانا على يسار القصر العالي.. وموقع جاردن سيتى حالياً هو نفس الموقع الذى اهتم به السلطان محمد بن قلاوون تاسع سلاطين الدولة المملوكية وزرع فيه المزيد من الزهور والأشجار وشق الطرق وسط المياه وشيد الحدائق والمتنزهات، وشيد فيه حدائق عرفت باسم «بساتين الخشاب».. ويذكر التاريخ ان الخديو إسماعيل يعتبر بالفعل هو الحاكم الذى حوَّل القاهرة إلى مدينة راقية تحاكى فى جمالياتها وحضارتها مدن الغرب كباريس ولندن وإيطاليا بالإضافة إلى اهتمامه بالنهضة الثقافية والمظهر المعمارى الذى ميز القاهرة عن غيرها من مدن الشرق.. وقديماً كان موضع جاردن سيتى موضعاً قديماً مغموراً بمياه النيل فحوَّله السلطان قلاوون إلى ميدان سمى بالميدان الناصرى وغرس فيه الأشجار وافتتحه لتقام فيه عروض الفروسية حيث كان السلطان شغوفاً بتربيتها، وهكذا تكتب شوارع وميادين القاهرة تاريخاً لا ينسى.