الأصدقاء والحلفاء جميعهم غاضبون ويعيشون حالة صدمة من تصريحات وقرارات الإدارة الأمريكية الجديدة، أوروبا غاضبة من الولايات المتحدة، الدول العربية غاضبة من الولايات المتحدة، دول أمريكا الوسطى غاضبة من الولايات المتحدة، كندا غاضبة من الولايات المتحدة، هذا عن الأصدقاء فما بالنا بالمنافسين والأعداء مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران؟ لا خلاف على ان امريكا هى أقوى دولة فى العالم لكنها ليست أقوى ولا أغنى من العالم مجتمعا، كان الناس ينظرون إلى أمريكا على انها حارسة أمينة على مجموعة من القيم والمبادئ التقدمية الحداثية التى من المفترض ان تقود العالم إلى حيث الرفاهة الاقتصادية والاجتماعية.
>>>
كان النموذج الأمريكى فى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هو الغاية التى يحلم بها الحالمون والمسطرة التى تقاس عليها مسارات تقدم الأمم والشعوب الأخري، وكانت العلاقة بين شطرى الأطلسى حيث أوروبا الغربية وأمريكا بمثابة رباط عضوى تحكمه قواعد التاريخ والجغرافيا والقيم المشتركة، لكن السؤال الذى يجب أن يتصدر المشهد هو ماذا جرى وماذا يجرى لكل هذه الثوابت التابوهات التى ظللنا لها عاكفين طوال سنوات عمرنا؟ هل تغيرت امريكا وبدلت مبادئها وقيمها وتحوَّلت إلى نموذج جديد ومختلف لا يمكن فهمه أو الوقوف على حدوده؟ ام ان ما يجرى أمام أعيننا هو من سنن الكون واحكام التاريخ؟
>>>
كنت أظن أن الادارة الأمريكية لديها أجندة اصلاحية شاملة تعتنق المذهب اليمينى المحافظ والمتطرف فى نفس الوقت، حيث قضايا الهجرة واللاجئين والمثلية والإجهاض والإجراءات الاقتصادية العنيفة من الحماية والرسوم الجمركية التى تقود إلى الحروب التجارية المدمرة للاقتصادات الناشئة، لكن ما يظهر أمامنا هو شئ آخر تماما نرى أثره لكننا لا يمكننا الوقوف على أبعاده وأسراره واتجاهاته، هل ما يجرى هو استدعاء جديد لعصور الإمبريالية فى زمن الذكاء الاصطناعي؟ أم هو محاولة لإعادة رسم خرائط وخطوط الجغرافيا السياسية وفقا للمستجدات العالمية؟ هل أصبحت خطوط الجغرافيا الحالية والحدود الفاصلة بين الدول لم تعد مناسبة لمقتضيات الفكر الإمبراطورى الجديد؟
>>>
أم أن كل ما يجرى ويحصل أمامنا لا يعدو كونه فقاعات مؤقتة وومضات عاجلة مرتبطة بحالة مزاجية شعبوية سرعان ما تزول بخفوت أصوات الجماهير؟ الحقيقة لا أحد يدرى على وجه اليقين، فهناك من المحللين والباحثين من يرى ان الأمر ابسط من كل هذه التعقيدات والأمر كله عبارة عن مبارة طويلة من المفاوضات لتصويب بعض الأخطاء وتحقيق اكبر قدر من المكاسب، وهناك من يرى ان وجه العالم يتغير والعالم الذى كنا نعرفه لم يعد موجود ولن يعود مجددا وعلينا ان نستعد من الان للمشاركة فى صياغة العالم الجديد بقوانينه الجديدة التى ستكون معتمدة على محددات مغايرة ليس من بينها القيم الأخلاقية ولا المبادئ الإنسانية.
>>>
والحقيقة لم أكن أرغب فى الكتابة عن هذه الأفكار والانطباعات حتى تهدأ العواصف وتستقر الأجواء وتنقشع الكتل الضبابية، لكن ما دفعنى إلى كتابة هذا المقال هو دموع أمين عام مؤتمر ميونخ للأمن كريستوف هويزغين التى ذرفها وهو يقول «لم تعد قيمنا مشتركة « موجها حديثه لنائب الرئيس الأمريكى الذى هاجم أوروبا هجوما قاسيا مهينا وبشكل غير مسبوق، كانت هذه الدموع هى الدافع الذى دفع الدول الأوروبية لعقد اجتماع أوربى مصغر ضم الدول الاوروبية الكبرى فى باريس لمناقشة تداعيات التهديدات الأمريكية وكيفية المواجهة بالاعتماد على النفس وبناء جيش أوروبى قادر على حماية أوروبا من أى تهديدات خارجية روسية أو صينية أو حتى أمريكية، هذه الدموع ربما تحولت إلى دموع تاريخيّة تسببت فى الطلاق الأوروبى الأمريكي.