أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء؛ ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحدًا سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعًا من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء.
تهتكت رئتاه نتيجة تعذيب العدو الإسرائيلى له؛ فقد لاقى الأمرين فى معتقل إسرائيل عقابًا منهم لأنه خدعهم، وعانى بمرض عضال فى رئتيه كاد يقضى على حياته وهو فى السجون الإسرائيلية؛ لذا أفرجت عنه إدارة المعتقل لتدهور حالته الصحية بعد ثلاث سنوات أمضاها فى التعذيب الشديد، رغم أن مدة سجنه كانت وطبقًا للحكم الصادر ضده هى خمس سنوات، وعملت القوات المصرية جهودًا مضنية فى سبيل نقله مع أسرته من شمال سيناء عام 1971 بعد الإفراج عنه إلى القاهرة ليتلقى علاجًا ناجعًا فى مستشفيات القاهرة، وظل أسير المرض الذى خرج به من سجون المعتقلات الإسرائيلية طيلة ست سنوات حتى وافته المنية متأثرًا بمرضه فى 1977، وأصرت أسرته على أن يوارى تراب سيناء جثمانه، ولبت الدولة المصرية مطلب أسرة البطل، وتم نقل جثمانه إلى بئر العبد بشمال سيناء ليكون أول مَن يوارى ثرى سيناء جسده بعد انتصار أكتوبر/ رمضان.
يروى حكاية البطل الشيخ متعب هجرس منذ البداية ولده علي: «… والدى من مواليد 1922 ويجيد القراءة والكتابة من خلال تعليمه بكُتاب قريته الذى حفظ به القرآن الكريم، وفى قريتنا رابعة التى سميت فيما بعد بقرية الثلاثين من يونيه كان الجميع يفتخر ببطولة والدي؛ فقد كان من كبار مشايخ العشيرة، وهو ابن عشيرة الهروش ومن مشايخ قبيلة البياضين، وقد صدر قرار بتعيينه شيخًا لعشيرة الهروش من الجمهورية المتحدة فى ذلك الحين، مثله كمثل الجميع من أبناء سيناء تألم بشدة وأصابته الحسرة بعد نكسة 1967، وخاصة عندما شاهد كبقية رجال سيناء قوات الصهاينة ترتع فى ربوع سيناء، فأقسم على أن يقدم شيئًا لوطنه مصر، وبدأت مقاومته للاحتلال ورفضه لوجودهم وتدنيسهم تراب سيناء، فبدأ طواعية ومن وازع وطنى فى مساعدة الجنود العائدين من نكسة 1967، واتفق مع رجال قريته وعشيرته على تقديم الدعم والمساعدة للقوات المصرية دون الالتفات لتحذيرات قوات الاحتلال بعدم معاونة القوات المصرية، ولكن والدى ورجال الهروش انطلقوا فى مساعدة العائدين من رجال قواتنا المسلحة تجاه بئر العبد، وقدموا لهم المأوى والمأكل والملبس والإقامة فى بيوتنا غير عابئين بالعدو الصهيوني، وكان والدى يردد: «رجالنا فى محنة، ومن الشهامة أن نقف معهم ونساعدهم، حتى يتخطوا هذه المحنة»، وكانت كل أحاديث والدى معنا مفعمة بالثقة من أنه سيحين الوقت قريبًا فى تصويب الأوضاع واستعادة سيناء من الاحتلال الصهيوني.
ويتذكر ابن البطل أعمال والده مع القوات المصرية العائدة من جبهات القتال: «… كان والدى وأصحاب الكفاح يقومون كدليل للقوات لتمكينهم من العبور عبر ملاحات بورسعيد حتى يطمئنوا من انتقالهم بسلام وأمان للغرب من القناة، وظلت هذه الأعمال التى ينظمها مع رجال العشيرة كدوريات منظمة ومؤمنة تتبع طرقًا لا يعرفها سوى أهل سيناء لنقل القوات ناحية الغرب، وفى مرات كثيرة كاد يستشهد برصاص الاحتلال عندما كانوا يفتشون عن رجال المقاومة الذين يساعدون القوات المصرية فى النجاة من أسر العدو الصهيوني.
يحكى عن فطنة والده البطل فى التعامل مع الصهاينة: «… بعد أن اطمأن والدى وزملاؤه من نقل الآلاف من الجنود إلى غرب القناة، وأنه على مدار أسابيع وعدة أشهر لم يلوح فى الأفق ظهور تجمعات للمقاتلين العائدين، وهنا انتهت المرحلة الأولى فى مواجهته مع العدو الصهيوني، وهى تأمين عودة جنودنا سالمين دون أن يتعرضوا لأسر الصهاينة وتعذيبهم، وبدأت المرحلة الثانية من كفاح ومقاومة والدى ضد العدو الإسرائيلي، وبات والدى مهمومًا ليالى طويلة يفكر فى الطريقة المثلى فى مقاومة الاحتلال الصهيوني، وعلم والدى وتأكد فى يقينه من أنه من الضرورى اتباع اسلوب ما يمكنه من مقاومة الاحتلال الصهيونى لأرضه سيناء، حتى هداه تفكيره إلى الاتفاق مع القوات المصرية من خلال مندوبها عنصر المخابرات لإظهار المواءمة مع الصهاينة وتركهم يستميلونه بطرقهم التى علم عنها من المخابرات المصرية الكثير، ومن خلال تعاملات الصهاينة أنفسهم معه، حتى بدأت تظهر عليه -متعمدة- قبول التعاون مع الصهاينة حتى نجح فى الحصول على ثقتهم المطلقة تجاهه، وشيئًا فشيئًا استطاع الولوج إلى معسكراتهم وإقامة صداقات متعددة مع الضباط والجنود الصهاينة، وكانت التقارير المخابراتية من جانب أجهزة الأمن الإسرائيلية فى صالحه حتى عرضت عليه المخابرات بشكل غير مباشر أن يتعاون معهم ضد القوات المصرية، وكان كل هذا تحت سمع وبصر عناصر المخابرات المصرية، مع اتخاذ كافة إجراءات تأمينه والحفاظ على سلامته، وبعد أن تخطى مرحلة الثقة من جانب المخابرات الإسرائيلية بدأ فى ممارسة ما يجيده وتعلمه سابقًا من عناصر المخابرات المصرية، وذلك من خلال تصوير الأسلحة والمعدات والتحركات الدائمة والطارئة للقوات الصهيونية، حتى أضحت جميع تحركاتهم مكشوفة لدى المخابرات المصرية.
ويكمل على ابن البطل متعب هجرس حكيه عن والده: «إن والدى استمر فى إمداد المخابرات المصرية بكل المعلومات عن تسليح ومعدات وأعداد قوات وعناصر الجيش الإسرائيلى موثقة بالصور لفترات طويلة، واعتمد البطل متعب هجرس فى تلك المهمة على إظهار الولاء لإسرائيل والتعامل مع الموساد على أنه ضمن مجنديه، وظل على هذا المنوال طوال الفترة من 1968 وحتى نهاية 1969 حتى تمكن العدو بالمصادفة من اكتشاف خيانته لهم، وأنه المسئول عن تسريب معلومات وصور لأسلحة ومعدات استقدمتها إسرائيل فى سيناء، وبدأت محاكمة البطل فى السجون الإسرائيلية بتهمة الخيانة والتعاون مع القوات المصرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقد تم الحكم عليه هو وزملاؤه».
يتذكر بألم شديد الابن المشهد عندما اقتحمت القوات الصهيونية منزل البطل متعب هجرس بعد علم الأسرة بأن أحد الأشخاص قام بالتبليغ عن والده وعن ثلاثة من المجاهدين كانوا فى طريقهم إلى بورسعيد لإرسال صور ووثائق عن معدات وأسلحة حديثة وصلت إلى سيناء للجيش الإسرائيلي، وقد تعقبتهم دورية إسرائيلية وفتحت عليهم النيران وأصابت بعضهم ثم ألقت القبض عليهم، وقد حكم على ثلاثة: «خالد عرابى بسبع سنوات، وسالم نصار بثلاث سنوات، ومتعب على هجرس بخمس سنوات».
وظل والدى فى السجن الإسرائيلى جزاء لدعمه وتعاونه مع القوات المصرية، وذلك ما كان يتصور الصهاينة، أما والدى فكان يحكى لنا أنه فى قرارة نفسه اعتقد أن وجوده فى المعتقل الإسرائيلى لهو مكافأة له على صدق وطنيته وإخلاصه لسيناء وقواته المسلحة، وهذا الاعتقاد هو ما كان يصبره على آلام الفراق ويكسبه قوة لتحمله عذاب السجن وقسوته عليه.
ويحكى بفخر الابن عن والده: «والدى هو أول شيخ ينضم لمنظمة سيناء العربية، وأول مَن فتح بيته لاستقبال الجنود المصريين فى سيناء عقب نكسة 1967، وأول مَن قام بنفسه ورجاله بتوصيلهم إلى غرب القناة بأعداد كبيرة عبر ملاحات بورسعيد، وتم القبض عليه هو ومجموعة من رجاله بواسطة العدو الصهيونى عام 1968، وعانى أشد ألوان التعذيب بالمعتقلات الإسرائيلية، وهو كذلك أول شهيد يتم دفنه فى سيناء بعد عودة جزء منها عام 1977.
لقبته المخابرات بـ»القمر الصناعى المصري»، ويسرد ابنه على متعب هجرس، أن المخابرات لقبته بهذا اللقب؛ لأنه لم يفت معلومة عن المعدات الإسرائيلية ولا ما تقوم به إسرائيل دون أن يرسله للقيادة المصرية، كما أن تقارير البطل متعب هجرس كانت شديدة الدقة؛ فعلى الرغم من أنه كان ينقل للمخابرات المصرية كل صغيرة وكبيرة من تحركات العدو الصهيونى وأحجام قواته ونقاط تمركزها ومناطق احتلالها؛ فإنها كانت معلومات فى منتهى الدقة.
وأكمل هجرس، أن والده أصيب بتهتك فى الرئة اليمين نتيجة تعرضه لأبشع أنواع التعذيب، خصوصًا أنه كان يتعامل مع الموساد الإسرائيلي، مما جعلهم ينتقمون منه أشد انتقاماً، مضيفًا أنه تم الإفراج عنه بعد ثلاث سنوات نتيجة تدهور حالته الصحية، وتم ترحيله عن طريق الصليب الأحمر وتوفى بمستشفى الدمرداش، متأثرًا بالإصابة التى تعرض لها نتيجة التعذيب.
ونال البطل تكريمًا من الدولة المصرية، وهو عبارة عن شهادة نوط الامتياز من الطبقة الأولى تقديرًا لإخلاصه لوطنه ووفاءً لتضحيته وعطائه حتى نالت سيناء حريتها من خلال هؤلاء الأبطال وقواتهم المسلحة.