مهما ترك الإنسان وطنه بحثاً عن رزقه إلا أنه فى النهاية لا يمكنه الاستغناء عنه.. فعليه عاش طفولته أو فترة من حياته وله فيها الأصدقاء والأقارب والأحبة والمكان والزمان وكل الذكريات الجميلة التى لا يمكن نسيانها حتى ولو كان سعيداً فى الوطن البديل بحكم الجنسية أو طول فترات الإقامة.. فالوطن هو الوطن ولا بديل عنه إلا دونه والموت.. وهذا ما فعله أهل غزة رداً على تخاريف التهجير إلى الدول المجاورة أو حتى لبلدان أخرى.
تذكرت ذلك عندما دعانى شقيقى الكبير عادل إلى حضور توقيع أعمال شعرية له قبل انتهاء معرض القاهرة الدولى للكتاب فهو أى شقيقى يحمل الجنسية الأمريكية ولكن مازال محتفظاً بجنسية وطنه الأم ويحرص على حضور معرض الكتاب لعرض دواوينه التى تجاوزت الـ21 مفضلاَ شعر العامة والشعر الغنائى.. عكس والدنا رحمه الله الذى لم يكتب الشعر إلا بالفصحى بحكم دراسته للغة العربية وتربيته الأزهرية وكمدرس لغة عربية فقد فضل شقيقى وهو مهندس ديكور درس بكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان وبحكم وظيفته التى تعتمد على الجماليات والديكورات والخيال فقد اختار الشعر العامى فقد وجد فيه ضالته لسهولة التعبير عما تجيش به النفس ويملأ الفراغ الذى فقده لابتعاده عن الوطن الأم شأن أى مهاجر أو حتى مغترب درحاً من الزمن، وهذا ما نلاحظه فى أشعار إيليا أبو ماضى أو جبران خليل جبران أو ميخائيل تليمة الذى يلحظ أى قارئ لأشعارهم لوعة الفراق والحنين إلى الوطن.
لاحظت فى غالبية دواوين شقيقى نفس مشاعر الشعراء أو الأدباء الذين سبقوه فى المهجر، وهذا شىء طبيعى ولكنها الضريبة ففى آخر ثلاثة أجزاء صدرت له تحت عنوان قطر الندى تجده فى قصيدة بعنوان قلب الغريب فى الجزء الأول يقول: قلب الغريب حن عليا – وحن بيا ومد إيديه قلب الحبيب ما سأل فيه – توه عيونى فى بحر عينيه – مين اللى أولى يكون جنبى – فى الشدة وفى عز المحنة – وفى قصيدة له بعنوان ساعة سفر نراه يقول: وعدنى حبيبى فى ساعة سفر – أسافر وأرجع ألاقى هواه – وعدنى وقلبى مصدق وعوده – وخليت له روحى وقلبى معاه – يا دوبك سافرت وكأنه ما كنا – وأنا قلبى تايه ما بين المدن – ثم أراه فى الجزء الثانى من قطر الندى فى قصيدة بعنوان الوحدة المرة يقول: الوحدة مرة والغربة قتاله – لولا المحبة قدر أنا اللى قلبى فضا – بوسع قلوب ملايين عرفت صنف البشر – ولا عرفوا أنا أبقى مين – وفى قصيدة بعنوان آهى دنيا بتجرى بينا يقول شاعرنا: أهى ددنيا بتجرى بينا – واللى يلحقها ينادينا – لى إيه ساخط يا صاحبى – ما هو عيبنا منه فينا – وفى قصيدة بعنوان هعيش على الذكرى – نراه يقول: سيبنى فى ملك ربانى – أعيش الذكرى من تانى.
وفى قصيدة بالجزء الثالث يقول: أنا اللى كان نفسى أرسى يوم على بر زهقت من دنيتى – كر – فر – ولفيت الدنيا شرق وغرب – شوفت فيها العز وشفت فيها الكرب.. وفى قصيدة أخرى قول بلوعة: بعد لما رجعت مصر سكنت قصر وقلت بلدى – لاقيتنى زى الغريب وجالس.. وفى قصيدة أخرى يقول: أسرح بخيالى وأروح لبعيد – ليه الدنيا واسعة تديق – اشمعنى أنا يعنى دون المخاليق.
الحقيقة غالبية الذين هاجروا نراهم يسيرون على نفس الدرب شعراً أو نثراً أو حتى خلال المراسلات العادية مع الأهل والأصحاب ونجدهم أكثر لوعة وألماً واشتياق وحنينا للجذور حتى الذى معه أولاده وزوجته فهو مهموم بوطنه ويتابع كل قضايا حتى القضية الفلسطينية التى تستحوذ على تفكير غالبية الشعراء والأدباء فى المهجر وهذا ما لاحظته فى الأهواء حيث قال: إلى كل شهداء الوطن – إلى شهدائنا الأبرار فى غزة المحاصرة والعجائز.. وهذا يعنى أن صاحبنا يتابع الأحداث رغم بعده آلاف الأميال بحكم عمله كمسئول لرابطة القلم العربية الأمريكية عن الدول العربية بولاية مينشجان التى يقيم فيها.
دواوين شقيقى جعلتنى أقرأ بعض دواوين من رواد المهجر أمثال جبران وإيليا وميخائيل والتى لاحظت فيها مدى اللوعة وألم الفراق للوطن الأم.. فما بال أهالينا فى غزة الذين ذاقوا ما لم يذقه الذين عاصروا الحربين العالميتين ورغم ذلك يريد ترامب تهجيرهم قسرياً إلى بلدان أخرى.. غير عابئ بآلام هؤلاء الذين يشعرون بالاغتراب فيما بقى من أرضهم المغتصبة حيث يقيمون فقط على 13 ٪ والباقى للمغتصبين.. وغير عابئ بأن مثل هؤلاء لو تشتتوا وساحوا فى بلاد الله وهذا غير متوقع سيكونون قنابل موقوتة لأنهم لم ولن يسكتوا على حقهم التاريخى منذ آلاف السنين.
بقى أن نتحدث عن قطر الندى وهو العنوان الذى اختاره الشاعر لثلاثيته الجديدة.. فهى أميرة مصرية ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون التى تزوجت من الخليفة العباسى فى بغداد المعتصم بالله.. وأقيم لها زفاف اسطورى مازلنا نتحاكى عنه للآن ونتغنى به فى ليلة الحناء ومطلعها يقول: الحنة يا حنة يا قطر الندى.. يا شباك حبيب يا عينى غلاب الهوى.