«أن تكون عدواً لأمريكا فهذا قد يكون أمراً خطيراً، ولكن أن تكون صديقاً فهذا أمر قاتل».
هذا ما قاله هنرى كسينجر ثعلب الدبلوماسية الأمريكية الراحل وشيخ مدرسة الواقعية السياسية، ربما كان هذا القول مبهما ومحيرا ومثيرا فى نفس الوقت، وكان بمثابة عبارة غامضة تحتاج توضيحاً، لكن ما يجرى الآن أمامنا وعلى الهواء مباشرة يمثل تفسيرا لمقولة هذا الداهية السياسية، فالوضع بات مختلفا بحق، فتفسير هذه المقولة التاريخية نعيشه الآن ولا نحتاج مذكرة شارحة ومفسرة وأصبحنا جميعا نصفق لعبارة كسينجر العبقرية ونرددها ويرددها معنا العالم فى صوت واحد لأول مرة.
>>>
هل كان يتخيل كائن من كان ان يسمع تهديدات أمريكية علنية باحتلال كندا وبنما وأراض من الدانمارك؟ هل كان يدور بمخيلة أحد ان يخرج رئيس أقوى دولة فى العالم وهى من المفترض ان تقوم بحراسة القانون الدولى ونشر القيم الأمريكية عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ليطالب بتهجير شعب من أرضه قسريا وسرقة هذه الأرض وتحويلها لمشروعات عقارية على جثث والأطفال والنساء؟ هل دار بخلدك يوما ما ان تسمع مثل هذا العبث والهراء غير المسبوق على مر التاريخ ولم يخبرنا التاريخ الحديث بمثل هذه الأفعال إلا فى قبل الحرب العالمية.
>>>
لذلك أرى ان هناك سؤالاً مفصلياً يجب ان نطرحه على الأمريكان بشكل واضح، هل نحن أصدقاؤكم أم اعداؤكم؟ وهل هذه العلاقة صداقة أم تبعية؟ فصديقك الذى يدير علاقاته معك بحماقة أخطر ألف مرة من عدوك الذى يدير صراعاته معك بحكمة وتعقل، الولايات المتحدة قد يكون صديقا مخيفا لا تتوقع أفعاله بسهولة فلا تأمن جانبه وقد يكون عدوا مريحا تستطيع أن تدير معاركك معه مستعينا بوثائق التاريخ أثناء كل الحروب التى خاضتها أمريكا مع فيتنام والعراق وأفغانستان والصومال وسوريا، أمريكا تقود العالم اقتصاديا وعسكريا لكنها فشلت أن تديره أخلاقيا.
>>>
الآباء المؤسسون للولايات المتحدة كانت طموحاتهم أن تكون الحضارة الأمريكية متكئة على قواعد أخلاقية تحددها مجموعة القيم الأمريكية، ربما كانت الحرية هى ذروة سنام الحضارة الأمريكية نظريا، لكن المتابع المتخصص للتغيرات الجارية داخل المجتمع الأمريكى ربما لاحظ أن هناك جلطات فى شرايين القيم الأمريكية مجتمعة، فالحرية والمساواة وقبول الآخر وحقوق الإنسان وكل مبادئ النيوليبرالية تتعرض لعمليات تجريف غير مسبوقة، فالانقسام الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين ليس خلافا حول تكتيكات الحفاظ على الثوابت وإنما تحوَّل الى خلاف حول الثوابت ذاتها، فقضية الحريات باتت موضع خلاف حقيقى بين الأمريكيين، هذا الخلاف لا يرتبط بآليات ممارسة تلك الحريات بل وصلت إلى حد الخلاف حوّل تعريف الحرية ذاته، وهكذا باتت الخلافات جذرية وليست فرعية كما يظن البعض.
>>>
من هنا يجب أن ننتبه الى تلك التغيرات الداخلية فى المجتمع الأمريكى الذى انتقل من فكرة «سيادة العالم» إلى فكرة «أمريكا أولا» وهذا كله أثر على كل ملفات الإقليم المشتعل الذى نعيش فيه، وهنا أعود إلى حكمة كسينجر وأحاول الربط بينها وبين علاقة الصداقة القوية والإستراتيجية التى تربط أمريكا وإسرائيل من ناحية، وعلاقة العداء الشديد والإستراتيجى بين أمريكا وإيران، وهنا نرصد المعنى الحقيقى لكونك صديقا للولايات المتحدة وكذلك المعنى الدقيق لكونك عدوا لإيران، هنا يمكن القول إن «امريكا تدعم إسرائيل بحماقة وتعادى إيران بحكمة» هذه الصداقة القاتلة.