بعد ساعات نستقبل ليلة النصف من شعبان؛ وهى ليلة ذات فضل عظيم، رغم ما دار حولها من خلاف.. لكنها تظل فرصة حقيقية لمراجعة النفس والانتصار على نزعات الكراهية وتوحيد الصف ولم الشمل، والصلح بين المتخاصمين، لاسيما الأقارب وذوو الأرحام.. وما أكثر المتخاصمين فى زماننا وما أكثر المتشاحنين وقاطعى الرحم.. وما أخطر قطع الأرحام!!
سطوة مواقع التواصل الاجتماعى خلقت واقعًا جديدًا فى حياتنا، فتغيرت عاداتنا وقيمنا فى تربية الأبناء، حتى باتت الأسرة تعانى من حالة من تفكك يتزايد بكل أسف فى غياب التوعية بخطورة تلك الظاهرة التى تسحب البساط من تحت أقدام مجتمعاتنا التى عرفت بالتماسك والتراحم والتكافل الاجتماعى وشيوع قيم بر الوالدين.
التفكك الأسرى من أخطر ما يواجه مجتمعاتنا، ولك أن تتخيل حجم المأساة الحادثة الآن من الخلافات الأسرية بين الأبناء والحوادث الأسرية بين أفرادها، فهل ينكر أحد أننا أصبحنا نرى جرائم قتل وعنف، وفوضى أسرية، لم تتصور عقولنا يوما أننا نسمع عنها فى مجتمعنا الداعم دائما للترابط والمودة والمحبة والمحافظة على هذا الكيان، لأن الأسرة ببساطة هى درع المواجهة الأول لأى أخطار تواجه المجتمع.
وينسى للأسف كثير من الأبناء أن قطع الرحم من الجرائم التى تُعجل عقوبتها فى الدنيا، مع ما يدخر لمقترفها من العقوبة فى الآخرة؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة فى الدنيا مع ما يدخر له فى الآخرة من البغى وقطيعة الرحم».
وفى دنيا الواقع، كثيرًا ما نرى قاطع الرحم تعباً قلقاً على الحياة، لا يبارك له فى رزقه، منبوذاً بين الناس لا يستقر له وضع ولا يهدأ له بال.
يقول الله تعالي: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» (محمد: 22).
أما فضل ليلة النصف من شعبان فقد ورد فى فضلها أحاديث نبوية عديدة، منها ما هو صالح للاحتجاج، ومنها ما هو ضعيف لا يحتج به؛ فمما هو صالح للاحتجاج ما رواه البيهقى عن أبى ثعلبة الخشنى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويملى للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه»، ومنه أيضًا ما جاء عن أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليطلع فى ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن».
وقال الشافعى رحمه الله: بلغنا أن الدعاء يستجاب فى خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب ونصف شعبان.
وإذا كان أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها.. فلماذا لا نستثمر هذه الأيام المباركة التى تسبق شهر الصيام والرحمة ليتصالح المتخاصمون ويتسامح المتشاحنون ويرتدع الباغون..؟!
أليس الخصام والقطيعة بين الأهل درجة من التشاحن تجعل صاحبها أبعد ما يكون عن رحمة الله.. فلماذا الإصرار على قطع الأرحام والتشاحن.. وماذا ينتظر المتشاحنون والمتخاصمون حتى يصلحوا فيما بينهم لترفع أعمالهم الصالحة إلى الله فى تلك الليلة المباركة.. ألا يعلم هؤلاء أنه لا صغيرة مع الإصرار، ففيم الخلاف بينهم وقد قال الله تعالى «فاصفح الصفح الجميل».. وماذا يقولون فى قول الله تعالي: «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم « (النور: 22).
ليلة النصف من شعبان فرصة للتقرب إلى الله والتخلص من العداوات فما من ليلة، كما يقول عطاء بن يسار، بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان، يتنزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيغفر لعباده كلهم، إلا لمشرك أو مشاجر أو قاطع رحم.
وروى عن على رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا يومها فإن الله تبارك وتعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول ألا من مستغفر فأغفر له ألا من مسترزق فأرزقه ألا من مبتلى فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر» رواه ابن ماجه.
إن شهر رجب شهر للزرع، وشعبان شهر السقى للزرع، ورمضان شهر حصاد الزرع، وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ، قَالَ: «اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، وَبَارِكْ لَنَا فِى رَمَضَانَ».
يقول أسامة بن زيد رضى الله عنهما: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم فى شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملى وأنا صائم.. فلماذا لا نحرص على رفع أعمالنا ونحن فى سلام نفسى وتسامح وسلامة صدر.. حتى نكون أهلاً لرضا الله تعالي؛ فالشحناء والحقد على الناس مما يمنع المغفرة فى أكثر أوقات المغفرة والرحمة.
أما دار الإفتاء فتقول: «لقد حثت السنة النبوية المطهرة على إحياء ليلة النصف من شعبان؛ فعن على بن أبى طالب كرم الله وجهه: أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا يَوْمَهَا؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلا كَذَا أَلا كَذَا؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ».
هذه نفحات ربنا فى أيام دهرنا، فلا أقل من أن نتعرض لها عسى أن يمسنا منها نفحة تنصلح بها أحوال فى أيام نحن أحوج ما نكون لرحمة الله حتى يرفع عنا البلاء ويكشف الغلاء ويمنع الضر.. فاللهم ارزقنا رحمة واسعة تغنينا بها عمن سواك.