اليوم يحتفل العالم بعيد الأم.. وهو تقليد عالمى رغم أنه أريد به تكريم الأمهات، لكنه فى رأيى لم يوفهن حقوقهن، فالأم أعظم من أن نحتفى بها ليوم واحد ثم ننساها بقية العام بل إن الإحسان إليها والبر بها واجب على الأبناء فى كل لحظة عرفانًا بفضلها الذى جعل الله الجنة جزاء له «الجنة تحت أقدام الأمهات» ..لكن للاحتفال بعيد الأم فى مصر قصة تُروي، ذلك أن الأخوين مصطفى وعلى أمين، مؤسسى صحيفة «أخبار اليوم»، هما صاحبا تلك الفكرة، حين قامت إحدى الأمهات بزيارة مصطفى أمين فى مكتبه، وقالت له إنها ترمَّلت وأولادها صغار، ولم تتزوج، وأوقفت حياتها عليهم، حتى تخرجوا فى الجامعة، وتزوجوا، واستقل كل واحد منهم بحياته، ولم يعودوا يزورونها إلا على فترات متباعدة، فما كان من مصطفى أمين إلا أن اقترح فى عموده الشهير «فكرة» تخصيص يوم للأم وكذلك فعل على أمين، ووافق أغلبية القراء على الفكرة وشاركوا فى اختيار يوم 21 مارس الذى يوافق أول أيام عيد الربيع ليكون عيدًا للأم يحتفل به كل عام، واحتفلت مصر بأول عيد أم يوم 21 مارس 1956 ومن مصر خرجت الفكرة إلى البلاد العربية.
أما عالميًا فإن صاحبة الفضل فى تكريس تلك الفكرة هى الأمريكية آنا جارفيس، وكانت شديدة الارتباط بأمها التى كانت تحلم بتكريم كل الأمهات ، ولتحقيق حلمها تبنت ابنتها «آنا» حملة واسعة شملت رجال الأعمال والوزراء ورجال الكونجرس، لإعلان يوم عيد الأم عطلة رسمية بأمريكا، وظلت جوليا تعزز هذا الطلب حتى جعل الرئيس ويلسون هذا العيد عيداً رسمياً وطنياً وبالفعل جرى تكريم الآنسة آنا جارفس فى جرافتون غرب فرجينيا وفلادلفيا وبنسلفانيا فى 10 مايو 1908، وكانت هذه بداية الاحتفال بعيد الأم فى أمريكا، ومع قدوم عام 1911 كانت كل الولايات المتحدة تحتفل بهذا اليوم، ووافق الكونجرس الأمريكى رسميًّا على الإعلان عن الاحتفال بيوم الأم، فى 10 مايو.
تكريم الأمهات واجب والبر بهن أوجب، بل فريضة من يتخلف عنها يضع نفسه موضع الجحود والعقوق.. وشتان الفارق بين أمهات اليوم عن أمهات الأمس، وربما تسبب انشغال أمهات اليوم بالسوشيال ميديا وشواغل الحياة فى إهمال تربية الأبناء على نحو صحيح يبنى جيل من الأبناء البررة، وخلق جيلاً من الأبناء الذين لا يبالون بمكانة الأم ولا يصرفون جهدهم لإرضائها والتودد إليها رغب فى تحصيل ثواب البر بها والإحسان إليها عملاً بقول الله تعالي: «وقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» الإسراء: 23.
وربما يطرح ذلك سؤالًا مهماً: هل لأبناء الذين لا يحسنون لوالديهم خصوصًا فى سن كبيرة، هم، فى الأصل، نتاج التربية الخاطئة..؟!
والجواب: فى الغالب أن من أحسن لولده فى الصغر بأن رباه على الاستقامة، والطاعة، وحسن الأدب فإنه سيجنى بره به عند الكبر..لكن تلازم الأمرين ليس لازمًا، ذلك أن الوالد قد يحسن تربية ابنه، لكنه يصير عاقا حين يكبر، وكذا قد يسيء الوالد تربية ولده، ثم يكبر الولد ويهديه الله تعالي، فيصير بارا بوالده.
وشتان الفارق بين أمهات الزمن الجميل وأمهات هذا الزمان إلا ما رحم ربي، فأمهاتنا لم يتعلمن فى الجامعات لكنهن كن جامعات وحدهن. أمهات زمان رغم أمية كثير منهن فقد كن مدرسة تعلم أبناءها كل شيء، كن يمتلكن استقامة وفطرة سوية وقدرة على التربية بعطف وحنان واحتواء وإقناع وتبصير يتسلحن بالصبر والإرادة ووضوح الهدف والتسامح وإنكار الذات والإخلاص..وإذا أردت دليلاً على قولى فانظر فى نتاج أمهات الأمس ونتاج أمهات اليوم من الذرية والأبناء، فأى الأخلاق أقوم، أخلاق أجيال الأمس أم أخلاق أجيال اليوم..أخلاق الكتاب المطبوع والمدرسة التقليدية أم أخلاق رواد السوشيال ميديا والتكنولوجيا..؟!
الأم أول حاضنة وأول مربية وأول مرشدة للأبناء.. فإذا كانت «جذور التربية مُرَّةً» بتعبير أرسطو فإن «ثمارها حلوة» ليس للأسرة فحسب بل للمجتمع والأمة بأسرها.
ولا عجب والحال هكذا أن تكون للأم كل هذه المكانة، فقد تعبت فى الحمل لقوله تعالي: «حملته أمه وهناً على وهن» ثم فى الولادة: «حملته أمه كُرهاً ووضعته كُرهاً»، ثم فى الرضاعة: «وحمله وفصاله فى عامين» ثم فى التربية والتنشئة وغرس القيم والأخلاق الفاضلة.. هكذا كانت الأم فى الزمن الجميل، كانت قدوة ومَدْرَسةً حتى قال فيها الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
أما أمهات اليوم، أمهات السوشيال ميديا اللاتى انجرفن إلا ما رحم ربى فى تيار الفضاء الإلكترونى وانشغلن عن تربية الأبناء مكتفيات بإطعامهن وكسوتهن وتشاغلن عن تربيتهن بالمعنى الأعمق للتربية، حتى خرجت أجيال تخجل حين تسمع لغتهم فى الشارع وما ينطقونه من ألفاظ جارحة وخادشة للحياء تنبيء عن انحطاط وتردٍ أخلاقى خطير ولمَ لا وقد تركوا لفضاء إلكترونى بحوره غريقة فصاروا فريسة سهلة لصيادين خبثاء يصطادونهم تارة بألعاب إلكترونية مدمرة وتارة بشائعات ومعلومات مضللة ..ولا تستغرب إذا رأيتهم تطرب آذانهم لسماع أغنيات المهرجانات وضجيج الموسيقى التى بدلاً من أن تبنى الوجدان والروح تلوثهما بأصوات فجة ومعان رديئة منحطة.
ما أصعب التربية فى زمن السوشيال ميديا، وما أصعب ما يعانيه الآباء والأمهات من مرارة ومعاناة فى تربية جيل يكاد يغرق فى الفضاء الإلكترونى الذى هو لغة عصرهم وهم أبناء زمانهم، الأمر الذى يضاعف صعوبات التربية الحقة لتخريج أجيال سوية قادرة على خوض غمار الحياة وتحدياتها وتحولاتها فائقة التطور التى ألقت ولا تزال بأعباء جسام على الوالدين ثم على المؤسسات المعنية بصناعة العقل والوجدان والأخلاق.
كان الله فى أمهات اليوم الواعيات بدورهن الحقيقى فى غرس القيم الدينية والمجتمعية السوية، وتكريس التقاليد والأعراف القيمة لتهذيب سلوكيات وربما شطحات الأبناء، لينشأوا قادرين على مواجهة أعباء الحياة واختباراتها، متسلحين بوعى رشيد مستنير وحس إيمانى عميق ويقين راسخ متين وهوية لا تقدر رياح الشائعات ولا صعوبات الحياة على هزها.
ما أقسى التربية الحقة فى زماننا.. وما أروع ثمراتها إن كانت تقوم على الفضيلة وتستلهم سيرة العظماء والصالحين من أمتنا.
أمهات السوشيال ميديا فى مهمة هى بحق معضلة حقيقية، فليس بوسعهن منع الأبناء من ارتياد الفضاء الإلكتروني.. كيف يفعلن ذلك وهن بالأساس لا يستطعن منع أنفسهن عن ارتياد آفاقه ..فإذا كان تيار السوشيال ميدياً جارفًا للوالدين إلا ما رحم ربى فكيف بحال الصغار ..؟!
الأم حجر الزاوية وعمود الخيمة لكل أسرة، وإذا صلحت صلح بنيان المجتمع، وإلا فقل على الدنيا السلام..أما مكانتها العظيمة فليست فى حاجة إلى دليل، ويكفى ما قاله رسولنا الكريم حين جاءه رجل فسأله: مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أَبُوكَ.
اليوم نحن إزاء إشكالية كبري، آباء وأمهات لا يتركون هواتفهم من أيديهم وينشغلون بها عن أقرب الناس إليهم يتواصلون مع البعيد ويغفلون حق القريب ثم يريدون أن ينشأ أبناؤهم صالحين واعين لما يحيط بهم، فكيف يريدون أن يشيدوا بناء تربويًا راسخا فى أبنائهم وهم يجهلون أبسط مقومات هذا البناء.
إن أبناءنا خلقوا لزمان غير زماننا كما يقول الفيلسوف أفلاطون: « لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم « لكن ذلك لا يعنى تركهم وما يريدون فليس كل ما يريدونه صالحاً أو نافعاً بل لابد من التدخل ليس بالمنع والزجر وحدهما بل بالحوار الهاديء المستند للحجة القوية لتعزيز مفاهيم الثقة بالنفس، والحرية.
لا شك أن أمهات السوشيال ميديا- إن جاز التعبير- فى مهمة صعبة، ذلك أن عليهن أولًا التخلص من هيمنة الفضاء الإلكترونى حتى يستطعن إقناع الجيل الجديد بترشيد التعامل مع التكنولوجيا، وحتى يجدن الوقت الكافى ليتفرغن للأبناء الذين صارت تربيتهم مهمة صعبة فى زماننا، تحتاج جهداً جبارًا وموازنة دقيقة بين إعطاء الحرية للأبناء للتعامل مع تكنولوجيا.. وفى نفس الوقت يجب عليهم أن يكونوا مراقبين جيدين بكل حسم وقوة لحسابات أبنائهم على مواقع التواصل، وأن يكون النقاش سلاحهم فى إقناع الأبناء بما هو مسموح أو غير مسموح فى مواقع التواصل، وكيفية الاستفادة منها مع الالتزام بتعاليم الدين والقيم والأعراف.
وعلى الآباء والأمهات أن يلوذوا بالدعاء إلى الله لإصلاح أبنائهم..وأن يرددوا دوماً قولهم : اللهم إنا عجزنا عن إصلاحهم فأصلحهم لنا يارب.. اصنعهم على عينك يا الله.
كل عام وكل الأمهات طيبات متفانيات فى الحفاظ على أسرهن، يتحملن عن طيب خاطر متاعب الحياة ومنغصاتها.. ويبقى أن عيد الأم مناسبة طيبة للتذكير بأفضال كل أم لكنه ينبغى ألا يقتصر على يوم واحد، بل ينبغى لكل ابن أن يبذل أقصى ما يستطيع لإرضاء أمه والبر بها إن أراد أن يرد لها الجميل، أو يدخل فيها الجنة جزاء بره وإحسانه إليها..فاغتنموا فرصة وجود الأم فى حياتكم فهى نعمة لا يشعر بها إلا من فقدها.
لقد فعلت أمى كل ما استطاعت لرعايتى وتمكينى من النجاح فى الحياة، ولم تدخر جهداً لتوفير كل احتياجاتى فى كل مراحل تعليمى وحتى تخرجت فى الجامعة والتحقت بالعمل فى الصحافة..كانت نعم الأم عطاء وحنانًا ومشورة واحتواء وتدبيراً لاحتياجات بيتنا براتب بسيط كان يتقاضاه والدي..ورحل الوالدان دون أن أتمكن من رد جزء ولو بسيط من أفضالهما عليّ لكنى لا أدخر وسعاً أن أدعو لهما فى كل صلاة.. رحم الله أمى وأبى وأسكنهما فسيح الجنات.