النظرة الجمعية للقضايا الوجودية المرتبطة بفكرة البقاء، فبقاء الدول على قواعد التاريخ والجغرافيا وحده لا يكفي، بقاء الدول يحتاج إلى إيمان حقيقى غير مزيف بفكرة الدولة، وهل هى جديرة بالبقاء وسط الكبار رغم كل الضغوط المحيطة أم أنها فى مهب الرياح العاصفة التى تأتى من هنا أو هناك؟ يخيل لى أن محاولة اعادة هندسة العقل الجمعى فى أى أمة هو قمة الخطر ما لم يكن مخططًا ومرتبًا ومقصودًا ومدارًا بشكل ما.
>>>>>
فكلما اشتدت الأزمات كان واجب الاستعداد الفكرى والثقافى لمواجهتها هو سيد الموقف بلا منازع، فالأزمات والتحديات المفصلية التى توصف بالتاريخية تحدث فى كل الازمنة وبين كل الأمم، ومعها يعاد ترتيب الصفوف فيما يمكن أن نطلق عليه مجازا «التمايز الوطني» فهناك دومًا فريقان أبدأ بالفريق الأخطر على الأمة، وهو يرى أن الأمور – كل الأمور – ستمر من خلال إرادة الآخرين وليس من خلال ارادتنا الوطنية! يرى هؤلاء أن الأمة لا يسعها إلا أن تقبل ما يعرض عليها وصولاً إلى أقل الخسارات المتوقعة، ويغلب على هؤلاء الطابع الانهزامى المهين، ويهرب معظم أعضاء هذا الفريق من خطوط المواجهة إلى المناطق الرمادية مختبئين فيها وممسكين بعصيهم من منتصفها كعادتهم وذلك خوفًا على انفسهم وأموالهم ومصالحهم.
>>>>
وعندما تشتد الأزمات من حول الوطن نجد هؤلاء وقد تملكهم مزيد من اوهام الخوف فينزوى كل منهم فى ركن ركين داخل مستنقع الاستسلام المهين، ويبدأ سادتهم فى المزايدة على المواقف الجريئة والقرارات الصعبة التى يتخذها المخلصون القائمون على شئون الأمة، بل نجد بعضهم يعرض نفسه ووطنه ومبادئه قربانًا للآخرين – كل الآخرين -، بيد أن الخطر الحقيقى من وجود وتمدد هؤلاء هو قدرتهم على إشاعة الروح الانهزامية والتسليم بما يكتبه أعداء الأمة على انه قدر مقدور لا يمكن تغييره وتبديله مهما علت الهمم وخلصت النوايا، هنا سنكون أمام تحد جديد ألا وهو خفض الروح المعنوية للأمة.
>>>>
اما الفريق الذى يمثل جموع الأمة فيرى ان الأزمات مهما تعقدت لا بد وان تجد طريقها للحل، لكن هذا الحل لا بد وان تفرضه فرضًا وتكون جزءاً اصيلاً وأساسياً من كل المعادلات، هذا الفريق يتمترس حول مبادئه ويستدعى من التاريخ قصصًا وحكايات تبرهن على قدرة هذه الأمة على فعل المستحيل، كما ان هناك معيناً حضارياً كامناً تحت جلد كل مصرى يمكن تنشيطه فى ومضة خاطفة من المشاعر الوطنية، هؤلاء يعشقون التحدى العاقل والمواجهات الحكيمة وعدم المزايدات الفارغة، هؤلاء يرون الفرص فى قلب التحديات.
>>>>
لكن هذه الحالة العظيمة من الاصطفاف الوطنى تجاه القضايا الكبرى تحتاج إلى قادة فكر يتسمون بالجراءة على خوض غمار المعارك الكبرى دون الخوف من الطوابير الخلفية التى تعيش ممتعضة داخل الدوائر الضيقة، نحن فى انتظار فرسان القوة الناعمة الذين ينطلقون فى ماراثون طويل منهك للجسد والروح معا ليقودوا معركة الوعى من خلال إعادة هندسة العقل الجمعى ليستطيع التكيف مع المتغيرات الدرامية التى تجعل إعمال العقل شيئاً من الجنون.