الحروب التجارية قديمة قدم الأزل، فالحروب التجارية بدأت مع بدء الإنسان وممارسته التجارة حتى فى عصور ما قبل التاريخ، وحتى وقتنا هذا، بل حتى نهاية الحياة على الأرض. وغالبًا ما تنشأ الحروب التجارية من السياسات الحمائية، حيث تفرض الدول تعريفات جمركية أو حواجز تجارية أخرى ضد بعضها البعض، وتشمل الأمثلة البارزة فى هذا الشأن، الصراع الأنجلو–هولندى فى القرن السابع عشر، التى كان مدفوعاً بالمنافسة على طرق التجارة والسيطرة البحرية، وحروب الأفيون فى القرن التاسع عشر بين بريطانيا والصين، التى أثارتها النزاعات حول اختلالات التجارة والتجارة غير القانونية للأفيون، وكذلك قانون التعريفات الجمركية سموت–هاولى لعام 1930، الذى تم سنه فى الولايات المتحدة خلال فترة الكساد الكبير، حيث تم فرض تعريفات جمركية عالية على آلاف السلع المستوردة، مما أدى إلى تعريفات انتقامية وزيادة تفاقم الانكماش الاقتصادى العالمي، وأخيراً فى عصرنا الحالي، الحرب التجارية الأحدث والمستمرة بين الولايات المتحدة والصين بدأت فى عام 2018، وتشمل تعريفات وحواجز تجارية على مجموعة واسعة من السلع، حيث تهدف كلا الدولتين إلى حماية صناعاتهما المحلية ومعالجة قضايا مثل حماية الملكية الفكرية واختلالات التجارة. وفى الغالب ما تكون للحروب التجارية تأثيرات معقدة وبعيدة المدى على الاقتصادات العالمية، تؤثر على كل شيء من أسعار المستهلكين إلى العلاقات الدولية.
تختلف الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة عما سبقها من حروب، كونها حول امتلاك التكنولوجيات البازغة والقدرة الصناعية الفائقة. وكما تم ذكره سلفاً فالحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، التى بدأت منذ حوالى ستة أعوام ومازالت مستمرة حتى الآن، بل مرشحة للتصاعد بصورة لم يشهدها البشر من قبل،فهى صراع معقد ومتعدد الجوانب، كونها بدأت فى الأصل كنزاع تجارى لكنها تطورت بسرعة إلى معركة أوسع للسيادة التكنولوجية، أى بمنتهى البساطة معركة حول امتلاك أدوات العصر، وبالتالى صناعة الحاضر، والأهم صناعة المستقبل.
ويمكن تتبع أصول الصراع الأمريكى الصينى التجاري، حيث بدأت من وجود غضب طويل الأمد حول عدم التوازن التجارى وحقوق الملكية الفكرية، وكانت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة تتهم الصين بممارسات تجارية غير عادلة، بما فى ذلك نقل التكنولوجيا بطرق ملتوية، وعدم الاعتدادبالملكية الفكرية للشركات الأمريكية وكذا التعدى عليها، والدعم الحكومى للشركات الصينية. وكانت تلك القضايا محل خلاف لسنوات عديدة، ولكن الوضع تصاعد بشكل كبير فى عام 2018.
فى يناير 2018، بدأت الإدارة الامريكية فرض رسوم جمركية وحواجز تجارية كبيرة على البضائع الصينية، وكان الهدف الأول لهذا الإجراء هو تقليل العجز التجارى بين البلدين، مع الضغط على الصين لإجراء تغييرات أساسية فى سياساتها الاقتصادية، واستهدفت هذا الإجراء مجموعة واسعة من المنتجات الصينية، بما فى ذلك الصلب، الألومنيوم، ومختلف السلع الاستهلاكية.
مع تقدم الوقت، أصبح واضحًا للعيان، وللشخص العادى قبل المتخصص، أن الصراع ليس فقط حول عدم التوازن التجاري، ولكن أيضًا حول الهيمنة التكنولوجية. حيث تنظر الولايات المتحدة إلى التقدم المذهل للصين فى المجال التكنولوجي، وخاصة فى مجالات مثل الأجيال الجديدة من شبكات الاتصالات، والذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، باعتباره تهديدًا مباشراً لمصالحها الاقتصادية والأمنية داخلياً وخارجياً.
كانت إحدى المحطات الرئيسية فى تصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، هو استهداف العملاق التكنولوجى الصينى «هواوي» فى مايو 2019، حيث أضافت وزارة التجارة الأمريكية هواوى إلى قائمة الكيانات المحظورة، مما أدى فعليًا إلى منع الشركات الأمريكية من التعامل مع عملاق التكنولوجيا الصيني، والذى يمتلك تكنولوجيا الجيل الخامس من الاتصالات وبقارق كبير عن الشركات الأمريكية العاملة فى نفس المجال، دون ترخيص خاص، وقد تم تبرير هذا الإجراء على أساس حماية الأمن القومى الأمريكي، حيث اتهمت الحكومة الأمريكية أن معدات هواوى يمكن أن تستخدم للتجسس من قبل الحكومة الصينية.
فى رد فعل من الجانب الصيني، تبنت الصين تدابيرها الخاصة، بما فى ذلك فرض رسوم جمركية على البضائع الأمريكية وقيود على تصدير المعادن النادرة، والتى تمثل أساساً لتصنيع المنتجات التكنولوجية عالية التقنية. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الحرب التجارية بين الجانبين، معركة شديدة الوطيس، حيث فرض كلا الجانبين تدابير متزايدة الصرامة على الجانب الآخر.
عندما تولى الرئيس بايدن المنصب فى يناير 2021، كانت هناك بعض التكهنات بأنه قد يتبنى نهجًا مختلفًا للحرب التجارية. ومع ذلك، استمرت إدارة بايدن بشكل كبير فى سياسات سلفها، محافظة على الرسوم الجمركية على البضائع الصينية وتوسيع التحكم فى التصدير على التقنيات البازغة والحساسة، مع التركيز على العمل مع الحلفاء لمواجهة تفوق الصين التكنولوجى والصناعي، وكذلك سعت الإدارة إلى بناء تحالفات مع دول أخرى لمعالجة القضايا مثل عدم حماية الملكية الفكرية وممارسات التجارة غير العادلة، من جانب الصين، كطريقة لزيادة الضغط على الصين فى حين تعزيز النظام التجارى العالمي.
وهذا يوجد تساؤل، وهو لماذا يوجد صراع على السيادة التكنولوجية فى قلب الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة؟والإجابة ببساطة هى أن كلا البلدين تدرك أن التفوق فى التكنولوجيات الرئيسية، مثل الأجيال الجديدة من شبكات الاتصالات، والذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، ستكون العامل الحاسم لامتلاك القوة الاقتصادية والعسكرية فى القرن الحادى والعشرين. ففى الماضى القريب كانت الولايات المتحدة قائدًا عالميًا فى هذه المجالات، لكن الصين استثمرت بكثافة لتكون الند بالند، حيث بلغت الاستثمارات الصينية فى البحوث والتطوير ما يقارب من 550 مليار دولار سنوياً، بما جعل اقتصادها يتضاعف 17 مرة خلال الثلاث عقود السابقة.
تعتبر خطة الصين «صنع فى الصين 2025» جزءا رئيسيا من استراتيجيتها للانتقال من قاعدة تصنيع ذات تكلفة منخفضة إلى قوة تكنولوجية عظمي، والتى تم إطلاقها فى 2015، وتهدف الخطة إلى تقليل اعتماد الصين على التكنولوجيا الأجنبية وتطوير قدراتها الخاصة فى مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والروبوتات، والفضاء، والتكنولوجيا الحيوية. وكانت هذه الخطة محل قلق كبير لدى الولايات المتحدة، حيث ترى الولايات المتحدة أنها تهديد لهيمنتها التكنولوجية.
فالجيل الخامس من الاتصالات، هو ركن أساسى فى الاقتصاد الرقمى الحديث، حيث يقدم سرعات اتصال فائقة، وقدرة الاتصال بعدد هائل من الأجهزة فى نفس الوقت. لذا كل من الولايات المتحدة والصين تسعيان للقيادة فى هذه التكنولوجيا الحاسمة. لذا قامت الشركات الأمريكية مثل كوالكوم وإنتل بتطوير تلك النوعية من تكنولوجيا الاتصالات، كما اتخذت الحكومة الأمريكية أيضًا تدابيرلتأمين بيئة الجيل الخامس من الاتصالات داخل الولايات المتحدة، بما فى ذلك حظر الشركات الصينية مثل هواوي، كما سبق ذكره، من المشاركة فى السوق الأمريكى بسبب مخاوف أمنية. وفى ذات الوقت قامت الصين بخطوات كبيرة فى اتجاه التفرد فى مجال تكنولوجيا الجيل الخامس، حيث استمرت هواوى كأكثر الشركات تفوقاً فى هذا المجال على مستوى العالم، على الرغم من فرض للعقوبات الاقتصادية عليها من قبل الولايات المتحدة والعديد من حلفائها الغربيين، واستمرت هواوى فى التوسع على مستوى العالم، كما استثمرت الحكومة الصينية بشكل كبير فى تطوير تلك التقنيةكجزء من استراتيجيتها الأوسع لتصبح قوة تكنولوجية عالمية.
أما فى مجال الذكاء الاصطناعي، سجلت شركات التكنولوجيا الرائدة الأمريكية مثل جوجل، ومايكروسوفت، وآى بى إم تقدمًا كبيرًا فى هذا المضمار، كما أولت الحكومة الأمريكية أيضًا أولوية لتطويرتلك التقنيةمن خلال مبادرات وطنية، مع تخصيص مبالغ تصل إلى 500 مليار دولار خلال الأعوام الأربعة القادمة، كما أعلن عن ذلك الرئيس ترامب فور توليه المنصب كرئيس للولايات المتحدةللمرة الثانية فى يناير 2025. وعلى الجانب الصيني، فقد وضعت الصين أهدافا طموحة لتصبح دولة رائدة فى هذا المجال بحلول عام 2030، حيث استثمرت الحكومة الصينية بشكل كبير فى بحوث وتطويرتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، وأصبحت شركات صينية مثل بايدو، على بابا، وتنسينت فى طليعة الابتكار فى مجال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهنا علينا أن لا ننسى شركة الذكاء الاصطناعى الناشئة الصينية الصاعدة Deep Seek التى ظهرت للعالم منذ أيام قليلة، وهزت عرش شركات التكنولوجيا الأمريكية فى ظرف أيام، بما جعل عملاق الالكترونيات الأمريكى NVIDIA ما يقارب من 560 مليار دولار، أى ما يقارب الناتج القومى للسويد أو الناتج القومى لفنلندا والبرتغال مجتمعين، كما ترتبط استراتيجية الصين فى الذكاء الاصطناعى أيضًا بجهودها لتحديث قواتها العسكرية، مما يثير مخاوف كثيرة حول طبيعة استخدام الذكاء الاصطناعى فى الحروب المستقبلية.
ونفس الأمر ينطبق على صناعة أشباه الموصلات، فطالما كانت الولايات المتحدة هى الدولة الرائدة فى تصميم وتصنيع أشباه الموصلات، حيث تقود شركات مثل إنتل، NVIDIA، وAMD ومع ذلك، تعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على سلاسل الإمداد العالمية، خاصة لتصنيع أشباه الموصلات، والتى تسيطر عليها شركات أغلبها فى تايوان وكوريا الجنوبية، وفى ذات الوقت تعمل الصين على تقليل اعتمادها على أشباه الموصلات الأجنبية من خلال تطوير قدراتها الخاصة، حيث استثمرت الحكومة الصينية مليارات الدولارات فى بحوث وتطوير أشباه الموصلات، وأصبحت شركات صينية مثل SMIC (مجموعة صناعة أشباه الموصلات الدولية) من الشركات شديدة التقدم فى هذه الصناعة. ومع ذلك، يشكل التحكم الأمريكى فى التصدير لتكنولوجيا أشباه الموصلات المتقدمة تحديات كبيرة لطموحات الصين وتحقيق طفرات كبيرة فى هذا الشأن.
وفى النهاية فالحرب التجارية بين الاقتصاد الأول فى العالم، الولايات المتحدة، والاقتصاد الثاني، الصين، حول التكنولوجيا والصناعة، هى صراع معقد ومستمر له تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمى بشكل كبير، فما بدأ كنزاع تجارى تطور إلى صراع أوسع للسيادة التكنولوجية، حيث يتخذ كلا الجانبين تدابير متزايدة العدوانية لحماية مصالحهما، لأن كليهما يعرف معرفة اليقين، أن من يمتلك التكنولوجيا، سيقود الاقتصاد العالمي، وبالتالى سيفرض الهيمنة على الجميع، ومع استمرار الصراع، سيكون من الضرورى لكلا الطرفين العثور على طريقة لإدارة اختلافاتهما وللعمل نحو علاقة أكثر استقراراً وتعاوناً، لأن الكل سيكون خاسراً.