وكأنها كانت معنا حتى الأمس، أقصد
أم كلثوم، أو الست، أو ثومة التى رحلت يوم 3فبراير عام 1975 واليوم الخميس 6 فبراير 2025، والفارق خمسون عاماً، رأيتها مساء الأحد الماضى فى السنوات الأخيرة من حياتها وهى تأخذ قرارا بمساعدة بلدها بعد النكسة، أقامت حفلاً وفاجأت الهوانم الكبار بخلع عقدها الذهبى وطالبتهن بالمثل لأجل المجهود الحربي، وحدث، صحيح أن بعضهن لم يسعد ولكنه تجاوب، وبعدها وصلت القصة للجميع ليقوم كل واحد وواحدة بالتبرع بما يستطيعه، ولم تسكت هى عند هذا الحد، ولكنها قامت بجولة فى كل مصر «عايزة ألف مصر كلها، واعمل حفلات فى كل مكان» لتدعو المصريين لدعم بلدهم، فتجدهم فى انتظارها على محطات القطار الذى تركبه رافعين لافتات التحية والمحبة فتغنى «مصر التى فى خاطرى وفى دمى ،بنى الحمى والوطن من منكم يحبها حبى لها»، وغنت أيضاً «أنا فدائيون»، ولم تسكت، وانما قررت مد دعمها إلى خارج مصر، وكانت حفلتها فى باريس على مسرح «الاولومبيا» جبارة بمن فيها من عرب فرنسا وأوروبا ومن الفرنسيين الذين سمعوا عنها فذهبوا اليها لتصبح واحدة من أهم حفلات الغناء فى تاريخ الدولة الفرنسية، ومساء الأحد الماضي، أعلنت قناة «فرنسا 24» الدولية فى تغطية لها لذكرى رحيل أم كلثوم، أنه يجرى الآن إعداد حفل عنها، ولم تذكر القناة تفاصيل، ولكنها قدمت مشاهد لا تنسى من حياة أم كلثوم مذكرة لنا أنها كانت ملقبة بـ«الهرم الرابع»، وأن أكثر من أربعة ملايين مصرى ودعوها حين ذاع خبر موتها.
الأمنية الأخيرة
فى نفس الموعد، الأحد 2 فبراير، كانت الحلقة الأخيرة من مسلسل «أم كلثوم» فى السابعة مساءً على شاشة قناة ماسبيرو، وفيها اكتملت رؤى كثيرة طرحها مبدعان كبيران هما الكاتب محفوظ عبدالرحمن، والمخرجة إنعام محمد على فى هذا المسلسل الرائع، بداية من رؤية الفنان وعلاقته بأهله، وبمن هم زملاء وشركاء العمل «أحمد رامى ورياض السنباطى وسيد مكاوى وآخرين من كبار شعراء وملحنى الخمسينيات»، ثم حركة أم كلثوم كمغنية ورمز للفن تجاه وطنها فى أزمته، فبعد نكسة يونيو ذهبت للغناء فى باريس، وفى المغرب، وتونس، ثم السودان عام 1968، وفى العام التالي، 1969 غنت فى الكويت وأبو ظبي، ولندن، وقررت السفر لروسيا حين علمت أنها ستقدم أسلحة لمصر فى معركتها مع إسرائيل، وتفاجآت بخبر وفاة الرئيس عبدالناصر، وحين يحاورها أحمد رامى مؤكداً أنه حاول البعد عن السلطة حتى لا يتأثر مثلها تخبره بأن الثورة جذبتها حين اهتمت بالفلاحين، وحين رفضت الخضوع حين هاجمها العدوان الثلاثي، وحين بنى السد العالى لأجل توفير المياه للمصريين، وأنه «كان عالماً جميلاً كله أحلام، وانتهي»، ولكن رامى يرفض حزنها الكبير ويطالبها بأن تظل قوية كما كانت، وبأن تعود للغناء فيعيد إليها الأمل، ويذهب معها لزيارة رياض السنباطى المريض، فتطالبه بأن يترك سريره ليقدم لها لحناً، وتستعيد شغفها بالغناء من جديد فتستقبل سيد مكاوى وتستمع لبدايات لحنه لأغنية «يا مسهرني» وتعجب بها كثيراً، وبعدها تبدأ حفلاتها الشهرية من جديد وفى حفل يناير عام 1973، تبدع فى الوصلة الأولى لكنها تشعر بألم وينصحها طبيبها بعدم إكمال الحفل، لكنها تكمله، ولا تقدر على إكماله للنهاية، وبرغم هذا تقوم بالبروفات مع سيد مكاوى على أغنية «أوقاتى بتحلو» التى لم تغنها، وتعرف مصر والعالم كله أن أم كلثوم مريضة من خلال مانشيتات الصحف، ومن مقال للكاتب الكبير «على أمين» عنها «لقد انتصرت فى كل معاركها، يا رب انصرها فى هذه المعركة فهى معركتها الأخيرة»، وتصحو من نومها لتجد آلاف الخطابات والتلغرافات من الناس فى كل مكان تسأل عنها، ومانشيتات تقول «صحة أم كلثوم تزداد سوءا كل يوم»، وترفض الذهاب للمستشفي، فيحضرون الأجهزة الطبية إلى البيت، ولكنهم يأخذونها جبراً للمستشفى يوم الخميس 30 يناير، وبعد أيام معدودة، ترحل كوكب الشرق فى 3 فبراير 1975 ويحضر البشر من كل مكان لوداعها وتمتلئ شوارع القاهرة بعزائها.. ترحل لكن رصيدها العظيم من الأغنيات والقصائد والمحبة لن يرحل.