ما هذه الحالة الغريبة من الهلع والرعب والتوجس التى أصابت الكثيرين فى العالم من وصول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، وتصريحاته الشعبوية قبل وبعد تنصيبه رسمياً، والتى وزع بها تهديداته على الجميع، حلفاء، وشركاء، وأعداء؟!
أمريكا ليست خالق الكون، بل هى بعض مما خلق الله من شعوب ودول، وترامب ليس إلهاً، كما أن تهديداته ليست قدراً محتوماً يستحيل دفعه، ويجب الاستسلام لها، بل هو رئيس أمريكا وليس رئيسنا، ولا يملك من أقدار ومصائر العالم شيئاً.
أمريكا الأقوي.. الأعظم.. الـ…… الـ…… هذه مجرد فقرة فى تاريخ العالم مثل ما سبقها وما قد يليها من إمبراطوريات وقوى عظمي.. فكم سقطت وزالت أو انكمشت وتراجعت قبلها من قوى وإمبراطوريات.. «قل سيروا فى الأرض فانظروا….».
ولماذا نعود إلى التاريخ، والدرس والعبرة موجودان من أمريكا نفسها؟!
حاربت سنين فى فيتنام، بكامل قوتها وعدتها.. وانهزمت.
وعندما كانت فى أوج شعورها بالانتصار عقب نجاحها فى تفكيك الاتحاد السوفيتى ومعسكره الاشتراكى بالكامل، لم تستعص على الاختراق من جانب جماعة وليس دولة ولا قوة عظمي، هى «تنظيم القاعدة»، فى أحداث الحادى عشر من سبتمبر مطلع الألفية الثالثة، فى أكبر ضربة تلقتها فى داخلها على مدار تاريخها، بتدمير برجى مركز التجارة العالمى رمز قوتها الاقتصادية ـ فى نيويورك ووصلت إلى مبنى وزارة دفاعها ـ البنتاجون ـ رمز قوتها العسكرية فى واشنطن.
وعندما أرادت الانتقام، واحتلت أفغانستان، مركز قيادة تنظيم القاعدة، خرجت، أو أخرجت منها بعد عشرين عاماً على يد «جماعة طالبان» بفضيحة، حيث تحوَّل مطار العاصمة كابول إلى ما يشبه «موقف عبود» الشهير بالقاهرة لسيارات الأقاليم، ونقلت فضائيات العالم صور الانسحاب العشوائى المخزى للجنود الأمريكيين وهم يتكدسون حول الطائرات العسكرية التى جاءت لنقلهم إلى بلدهم.
إن هذه الحالة الغريبة من الهلع والرعب والتوجس، هى التى تغرى ترامب بنا وبغيرنا، وهى التى تضفى عليه وعلى بلاده هالة من القوة والهيبة أكثر مما يستحق أو تستحق.
وبالطبع، حين يرى البعض فى عالمنا العربى هذه الحالة تنتاب قادة وشعوب قارة بأكملها، هى الأقرب لأمريكا تحالفاً وشراكة، وهى القارة الأوروبية، لمجرد أنه ترامب يطالبهم بزيادة إنفاقهم الدفاعى لتوفير الحماية الذاتية لأنفسهم بدلاً من الاعتماد على الحماية الأمريكية المكلفة لدافع الضرائب الأمريكي، فلابد أن تنتقل هذه الحالة إلى هذا البعض بالعدوي.
إن الذين سبقوا ترامب من الرؤساء الأمريكيين على مدى تاريخها، كانوا يدركون أن أمريكا لن تكون قوية ولا عظيمة إلا حين تكون قادرة على حماية مصالحها وأمنها القومى الممتد على اتساع قارات العالم.
ولذلك لم يكن الأمريكيون يتفضلون على الأوروبيين أو على الآسيويين أو على بعض العرب بما يتحملونه من تكلفة، لأنهم كانوا يعلمون تماماً أنهم يحمون أنفسهم بهذه التكلفة قبل أن يحموا هذه الدول، وأن تخليهم عنها، سوف يتيح لأعداء أمريكا ملء الفراغ الذى ستتركه فى هذه المناطق، وتهديد المصالح الأمريكية والأمن القومى الأمريكي.
وهذا ما يجب أن نواجه جميعاً ترامب به.. أنت تريد الحفاظ على أوروبا حليفاً قوياً لأمريكا، باعتبارها الضفة المقابلة لأمريكا من المحيط الأطلنطي.. ادفع..
أنت تريد الحفاظ على مصالح بلدك فى المنطقة.
أنت تريد الحفاظ على مصالحك فى كوريا الجنوبية وتايوان والفلبين وغيرها لأنك تريد استمرار وجودك فى شرق آسيا، والحفاظ على تفوق بلادك العسكرى والاقتصادى على الصين.. ادفع.
ادفع لنا كما تدفع لإسرائيل أنت ومن سبقوك، ليس لحمايتها، بل لتكريس احتلالها للأرض العربية فى سوريا وفى فلسطين، ولم تقل لها أبداً ادفعى لحماية نفسك بدلاً من الاعتماد على الحماية الأمريكية.
بل إن كل رئيس أمريكى لا يغادر البيت الأبيض عند انتهاء فترة رئاسته، قبل أن يوقِّع لإسرائيل شيكاً بعشرات المليارات من الدولارات لتغطية احتياجاتها لسنوات.
إن أمريكا، إذا أراد ترامب أن يعيدها عظيمة مجدداً، فلابد أن تتحمل تكلفة ذلك بنفسها كما تدعو الآخرين لتحمل تكاليف حماية أنفسهم.
لن يقوى الاقتصاد الأمريكى بزيادة الرسوم الجمركية على كل سلعة أجنبية تدخل أمريكا.. لأن الأمريكيين هم من يستوردون هذه السلع، ولأنه لا أحد يستود سلعة لبلده إلا إذا كان عليها طلب من المستهلكين، وإلا إذا كانت فى مستوى جودة السلع الوطنية.. وبالتالى ستكون أمريكا عظيمة بقوة اقتصادها إذا أثبتت قدرتها على المنافسة الحرة لإشباع احتياجات مواطنيها بسلع وطنية تنافسية للسلع المستوردة، سواء فى الجودة أو السعر.
ولن يكون ترامب رجل السلام فى العالم وهو يعيد النهج الاستعمارى القديم بالتهديد بالاستيلاء على دول أو أجزاء من دول بأى ذريعة لأن السلام لا يقوم إلا على القانون، ولا يتحقق بالاستمرار فى الكيل بمكيالين واعتماد المعايير المزدوجة، وإرساء نوع من الفوضى العالمية يتيح لكل دولة أن تستولى على أى دولة أخرى أو جزء منها طالما وجدت مصلحة لها ولأمنها القومى فى ذلك.
على ترامب أن يدرك جيداً وهو يستهل فترته الرئاسية أنه يتسلم أمريكا وهى شريك فى جريمة دولية إنسانية عظمي، وهى جريمة الإبادة الجماعية التى نفذتها القوات الإسرائيلية فى غزة بأسلحة أمريكية وفى حراسة الأساطيل البحرية والجوية الأمريكية.
وأن عليه هو أن يستعد لمواجهة من سيعمل على إضافة أمريكا إلى لائحة الاتهام بالإبادة الجماعية كشريك رئيسى فاعل فى الدعوى المقامة أمام محكمة العدل الدولية.
أمريكا ليست وحدها فى هذا العالم.. وليست فى حاجة إلى مزيد من العداوات التى لن تعيدها أبداً عظيمة مرة أخري.. وطريق السلام واضح ومعروف لمن يجنح حقاً إلى السلام.