«توقفت المدافع والدبابات والطائرات، وعاد الفلسطينيون إلى الركام والأنقاض فى قطاع غزة غير أنهم ولأمد الدهر سيظلون فخورين بأنهم لم يفرطوا فى أرضهم ولم يتنازلوا عن قضيتهم»، هذه هى خلاصة المشهد الحاصل حاليا فى غزة الذى يجب أن نتوقف عنده كثيرًا ليس فى إطار التحليل الأمنى والسياسى فقط ولكن فى جوانبه الإنسانية والوطنية التى ستظل علامة فارقة فى تاريخ الشعب الفلسطينى الذى تعلم الدرس من نكبة 1948، ومن الحروب التى تلتها بأنه «لا وطن بدون تضحيات»، ولا بديل عن المقاومة وعن النضال لاسترداد الحقوق الفلسطينية، مهما بلغت التحديات والتناقضات الإقليمية والدولية.
نعم «لا وطن بلا تضحيات» وقد كانت التضحيات جسيمة هذه المرة بعد «طوفان الأقصي» فى أكتوبر 2023، وعلى مدى 471 يوما وقف العالم خلالها على أطراف أصابعه، وهو يتابع أغرب حرب فى الشرق الأوسط، تلك الحرب التى شنتها إسرائيل على سكان القطاع فقد كانت أول حرب غير متكافئة بالمعنى الشامل فى المنطقة، فهى بين جانبين أحدهما المقاومة الفلسطينية فى القطاع، والجانب الثانى جيش الاحتلال الإسرائيلى المزود بأحدث الأسلحة والطائرات وتسانده الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وهى أول حرب إقليمية ينقل من أجلها الغرب حاملات طائرات ومدمرات وسفنًا حربية تحت ادعاءات واهية أثبتت الأيام عدم مصداقيتها وعدم واقعيتها.
أيضا كانت الحرب الإسرائيلية على غزة هى أول حرب تمتد فصولها أكثر من خمسة عشر شهرا، ويلجأ قادتها فى تل أبيب للكذب والفبركة وصناعة مشاهد تمثيلية غير حقيقية لخداع شعوب العالم، وهى أول حرب يتباهى صانعوها من المحتلين بقتل أصحاب الأرض وأن يوصفوهم بالحيوانات، هى كذلك أولى الحروب الإقليمية التى يحاصر فيها طرف الطرف الآخر ويحرمه من الطعام والشراب والدواء والمياه والكهرباء، وهى أخيرا أولى الحروب التى ظهر خلالها العجز التام للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمات حقوق الإنسان بل وعدم الاكتراث بما تصدره محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية من قرارات وأحكام.
وحقيقة فإنه منذ نشوب الحرب الإسرائيلية على غزة فى أكتوبر 2023 – وحتى توقفها قبل أيام – بدا وأن إسرائيل تريد ترهيب العرب وضرب المقاومة وضياع حلم الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة.. الحقيقة الأخرى هى أن الحرب على غزة جاءت فى إطار مخطط تقسيم المنطقة «القديم- الجديد» واستكمال ما تم البدء فيه بالعقد الماضى من مؤامرات الفوضى وضرب الجيوش العربية وتفتيت دول المنطقة إلى دويلات صغيرة.. الحقيقة الثالثة هى أن الاستعمار الجديد وباستخدامه لتيار الإسلام السياسى وللتنظيمات الإرهابية تمكن بالفعل من تقويض بعض دول المنطقة،غير أنه وبجهود مصرية مخلصة تم إجبار الكيان الصهيونى على وقف العدوان على غزة «حتى ولو لبعض الوقت»، وكخطوة أولى لإعادة ترتيب المنطقة.
ولكن لماذا نجحت جهود القاهرة فى وقف اطلاق النار بغزة، ولماذا اعتبر البعض أن وقف الحرب، يعتبر نصرا لمصر والفلسطينيين، والإجابة هنا تكمن فى الشفافية المصرية وتمسك مصر بالسلام وعلاقتها المتوازنة بكل القوى الدولية إلى جانب قدرات مصر العسكرية والتى جعلت من الجيش المصرى أحد أقوى الجيوش فى العالم، فى المقابل فإن العامل الآخر لقبول إسرائيل وقف إطلاق النار هو الخسائر الضخمة التى تكبدها الكيان الصهيونى نتيجة طول أمد الحرب ونجاح المقاومة الفلسطينية فى قتل وإصابة مئات الجنود من قوات الاحتلال وتدمير مئات المعدات العسكرية، إلى جانب الفشل الذريع فى الوصول للرهائن الإسرائيليين أو إنهاء المقاومة والأهم فشل الكيان فى تهجير الفلسطينيين إلى سيناء.
لقد حملت الأيام الأولى لوقف اطلاق النار فى قطاع غزة عددًا من المؤشرات التى تكشف إلى أى مدى تناغمت السياسة المصرية تجاه الأزمة فى غزة مع توجهات سكان القطاع بما فى ذلك تعبير سكان غزة عن تقديرهم للمساعدات المصرية ولموقف مصر الرافض للتهجير والذى ساهم فى تمسك الأهالى بالأرض وتحملهم لكل أشكال حرب الإبادة الإسرائيلية فى القصف من الأرض والبحر والجو، وفى القتل المتعمد للأطفال والنساء وفى تدمير المستشفيات وحرمان الفلسطينيين الجرحى من تلقى العلاج، إلى جانب هذه السلسلة الطويلة من الظلم الإنسانى فى الحصار والتجويع والقتل البطيء فى مخيمات «متهالكة» لم تحم الناس من شمس الصيف أو برودة وأمطار الشتاء.
فى الأخير فإن المشهد فى غزة حاليا وبرغم ما يحمل فى طياته من مشاعر فرح بوقف إطلاق النار وبدء الحديث عن إعادة إعمار القطاع، إلا أنه هذا المشهد نفسه يتطلب المزيد من القراءة لفهم واستيعاب الدور المصرى وأهميته، ولنرد بالأدلة والبراهين على أكاذيب وضلالات الجماعة الإرهابية والجهات الأجنبية الداعمة لها.