ماذا يحدث عندما يتعرض الإنسان لجرعات متتالية من الابتلاء أو لصدمات قوية من المصائب وأخواتها؟!
بالتأكيد حالة من الفوران والغضب وربما تفلت الأمور من أصحاب الأكباد الحرة ولا يستطيع أحدهم التحكم فى انفعالاته أو طريقة تلقيه الصدمة وقد يكسر البعض قواعد الايمان ويوشك أن يكون على حافة الهاوية.. وهذه لا يصلها قطعا المؤمن الصادق الايمان القوى ومن هو على يقين بحكمة الله قدره وقضائه وضرورة التسليم التام له.
ولذلك يقولون إنه كلما ارتفعت حرارة المصيبة كانت الحاجة إلى عملية تبريد أكبر.. نعم تبريد للمصيبة.. والتعبير صكه علماء المسلمين قديما ومنهم الشيخ الكمال أبوحفص بن عمر أحمد العدية الحلبى المتوفى عام 660 هجرية.. وقد وضع كتابا بعنوان: تبريد حرارة الاكباد فى الصبر على فقد الاولاد..
وهناك كتاب آخر شبيه له حتى فى العنوان وضعه العلامة الدمشقى الشيخ الحافظ المحدث أبوعبدالله محمد المعروف بأبى ناصر الدمشقى متوفى عام 842 هجرية.. ويعتبر موجزا ومختصرا للكتاب الأول وقد وجدت النسختين على الإنترنت لمن أراد الإطلاع عليهما.
ووصف الكتاب بأنه درة فريدة فى باب المواساة وتذكرة لأولى الألباب وتسلية لكل مؤمن مصاب تشرح صدره وتجلب صبره وتهون خطبه وتجفف أمره.
الحقيقة استوقفنى مصطلح التبريد تحديدا وما له من إيحاءات وظلال ومعان تقودك إلى المقصد الأسمى من الفعل فالمصيبة كما النار المشتعلة وحتى بعد الإطفاء تحتاج إلى عملية تبريد وترطيب حتى لا تشب النار من جديد وتشتعل.. ويبدو أن المصطلح اقتبس من علوم الفيزياء والكيمياء ومن عمليات التفاعل الخطرة فى المفاعلات النووية واشباهها وبعد الحرائق الكبيرة والتبريد من ضرورات العمل حتى تستقيم الأمور والنتائج.
وفى العلوم الاجتماعية والإنسانية النفس البشرية بحاجة دائما إلى التبريد والى من يخفف عنها ضغوطات الحياة وعندما تتعرض لصدمات أو يصيبها مكروه لإخراجها من الدوامات المهلكة للنفس والبدن ايضا.. والمواساة ولقاء الصحب والاحباب جزء مهم من عملية التبريد وما يصاحبها من أفعال تساعد الإنسان المبتلى والمصاب للخروج من حالة الحزن.
وبعض الأمور تتم بالفطرة ودون حاجة إلى فلسفات أو ما شابه ذلك.. لكن بعض الأمور المهمة تحتاج إلى علم وفن ودراية وتعليم ايضا.
من هنا تنبع أهمية الدراسات العلمية فى مواجهة كل ما يتعرض له الإنسان فى كل مناحى الحياة لترسم الطريق وتفتح أبواب الأمل وتعدد النماذج الجادة والصالحة فى التغلب على المصائب والخروج منها..
فى كتابى تبريد المصيبة. وبرد الاكباد فى فقد الاحباب.. سلوى واى سلوى من خلال قصص وحكايات لاصحاب البلايا ومن فقدوا احبابهم وفلذات أكبادهم وفيها شرح للأمور والضوابط المعينة على الصبر وفقا لقواعد الشريعة وفى ضوء نصوص الكتاب والسنة وشروح كبار الفقهاء والمفسرين.
ونذكر هنا بعضا مما ذكروه من الأمور التى تعين على الصبر على المصيبة بفقد الأحباب وهى كثيرة منها:
معرفة جزاء المصيبة وثوابها وهذا من أعظم العلاج الذى يُبَرِّد حرارة المصيبة والعلم بتكفيرها للسيئات وحطّها كما تحطّ الشجرة ورقها والإيمان بالقدر وأنها مقدرة فى أم الكتاب.
ومعرفة حق الله فى تلك البلوى فعليه الصبر والرضا والحمد والاسترجاع والاحتساب. وأن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وأن العبودية تقتضى رضاه بما رضى له به.
وأن يعلم أن هذه المصيبة دواء نافع ساقه إليه العليم بمصلحته الرحيم به فليصبر ولا يسخط ولا يشكو إلى غير الله فيذهب نفعه باطلاً وان يعلم أن عاقبة هذا الدواء: من الشفاء والعافية والصحة وزوال الآلام ما لم تحصل بدونه قال الله تعالي: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ». وقال – عز وجل -: «فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا» وأن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله وإنما لتمتحن صبره وتبتليه وان يعلم أن الله يربى عبده على السرّاء والضرّاء والنعمة والبلاء فيستخرج منه عبوديته فى جميع الأحوال.. ثم ليعرف طبيعة الحياة الدنيا على حقيقتها فهى ليست جنة نعيم ولا دار مقام إنما ممرّ ابتلاء وتكليف.
قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس فسبحان من ينعم بالبلاء ويبتلى بالنعماء.. قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلى بعض القوم بالنعم.
الصبر أربعة أنواع: صبر على البلاء وهو: منع النفس عن التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم وهو: تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبر بها، وصبر على الطاعة وهو: المحافظة والدوام عليها، وصبر على المعاصى وهو: كف النفس عنها.. وللصابر ثلاث بشارات من الله تعالي: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».
من بديع ما قال الشيخ الشعراوى رحمه الله: إذا جاءك قضاء من الله.. إياك ان تغضب أو تتمرد لأنك بذلك تطيل أمد القضاء وعليك ان تصبر لأنه لن يرفع قضاء حتى يرضى العبد به.
جاء فى الحديث الصحيح عن النبى «صلى الله عليه وسلم»: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِى جَسَدِهِ أَوْ فِى مَالِهِ أَوْ فِى وَلَدِهِ).
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن النبى «صلى الله عليه وسلم» قَالَ: (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ).. والله المستعان..