لم تتعلم إسرائيل شيئا من درس الهزيمة الأمريكية فى فيتنام.. لم تترك أمريكا حجرا فى فيتنام.. لم تدمره بقنبلة أو صاروخ.
لم تترك القوات الأمريكية شيئاً فى فتيام لم تصل إليه نيران الدمار بالة الحرب الأمريكية الجبارة.. بمرور الوقت اعترف الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون بالحقيقة.. وقال إن أمريكا قوة عسكرية كبرى وهائلة ولكن للقوة العسكرية حدودا.. لا يمكن أن تتخطاها.. واتخذ قرار الانسحاب الأمريكى المهين من فيتنام.
وفى قطاع غزة.. من الواضح بشدة أن إسرائيل قد تفوقت على الجيش الأمريكى فى فنون القتل والدمار.. وتجاوزت كل الخطوط الحمراء فى الحرب.. وارتكبت أسوأ جرائم الحرب والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطينى ومثل أمريكا فى فيتنام.. فشلت إسرائيل أيضا فى تحقيق أى هدف استراتيجي.. والأسوأ من كل ذلك أن إسرائيل فشلت فى إدراك أن للقوة العسكرية حدودا.. من المستحيل أن تتخطاها.
لكن إسرائيل تحرص دائما على اللجوء للتصعيد العسكري.. والمبالغة الحادة فى ارتكاب أبشع جرائم الحرب والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.. تحت الدعاوى الشعارات الكاذبة للردع العسكري.. والتفوق العسكرى حتى على المستوى الإقليمى فى الشرق الأوسط.
وسرعان ما انكشفت حقيقة إسرائيل.. حتى أمام المراقبين العسكريين فى واشنطن ولندن فقد اتضح أمام العالم كله أن إسرائيل فى النهاية مجرد «كيان سياسى صهيوني» شديد الضعف من الداخل والكيان الضعيف يكون دائماً.. قابلا للكسر والانكسار العسكرى والاستراتيجي.
وقد أصبحت إسرائيل حاليا عارية تماما أمام العالم.. وأمام خبراء الاستراتيجية والشئون العسكرية فقد اتضح أن إسرائيل ليست إلا «كيان سياسي» يعيش فى حالة يأس استراتيجى مطلق ولذلك نجد إسرائيل تحاول دائما أن تفرض شرعية وجودها على الشعب الفلسطينى وعلى الدول المحيطة بها بالقوة المسلحة وحدها.. وليس بالقبول الطبيعى للاعتراف والتعايش السلمى بين الدول!!
وقد ارتسمت آثار وأعراض الهزيمة الاستراتيجية التى تعرضت لها إسرائيل بعد هجوم حماس فى ٧ أكتوبر ٣٢٠٢ على وجه وملامح رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو.
فقد تحول نتنياهو من «حيوان سياسي» شديد الغرور إلى مجرد إنسان محطم نفسيا وعاطفيا وسرعان ما تبددت صورة نتنياهو القديمة.. الزعيم السياسى المغرور.. المفتون بقوة إسرائيل العسكرية.. وبدعاوى تفوقها العسكرى والتكنولوجى المطلق على جميع الأطراف فى الشرق الأوسط.
فقد استيقظ نتنياهو فى صباح يوم ٧ أكتوبر ٣٢٠٢ على أنباء الزلزال المدو لهجوم حماس الشامل على إسرائيل فوجئ نتنياهو بالهجوم وفوجئ الجيش الإسرائيلى وفوجئت أجهزة المخابرات الإسرائيلية.. كانت المفاجأة كاملة والصدمة صاعقة لنتنياهو ولكل إنسان يعيش داخل إسرائيل.
ومع ذلك مازال نتنياهو يكابر ويرفض الاعتراف بمسئوليته عن هزيمة إسرائيل يوم ٧ أكتوبر ٣٢٠٢.
وقام خبراء التحليل النفسى فى تل أبيب مؤخرا.. بتحليل شخصية نتنياهو بعد هجوم حماس.. من واقع صور نتنياهو وملامح وجهه وما طرأ عليه من تغيير قبل الهجوم وبعد.
وذكرت الطبيبة النفسية الإسرائيلية تامى إيلاشفيلي.. إن صور وجه نتنياهو قبل هجوم حماس كانت توحى بوجود إنسان شديد القوة والثقة بالنفس.. يتمتع بكاريزما طاغية.. إنسان سياسي.. لا يتفوق عليه أحد فى إسرائيل.
لكن بعد الحرب تغير وجه نتنياهو تماما.. وظهرت ملامح الإحساس العميق بالصدمة واليأس على وجهه وتغير حتى شكل عينيه التى اتضح منها أن نتنياهو يعيش تحت ضغوط رهيبة ويبدو كإنسان شديد الضعف.. يدعى أنه يدافع عن إسرائيل وهو فى الواقع إنسان يائس يدافع عن نفسه ووجوده بأى ثمن.. ولو بالاستمرار فى الحرب والدمار إلى ما لا نهاية.
صور نتنياهو الحديثة تشير إلى إنسان انكمشت ملامح وجهه وأصبح هذا الوجه حاد الزاويا.. بما يؤكد أنه إنسان شتت ذهنيا وعاطفيا اختفى نتنياهو القديم.. الزعيم السياسى الأنيق.. وانتهت صورته القديمة واختفى نتنياهو الرجل حاد الذكاء الذى يعرف ماذا يريد ويقول ومتى يقول ولماذا وكيف؟!!
نتنياهو الآن إنسان يختلف تماما.. لم يعد يعرف ماذا يفعل أو ماذا يقول.. وهو يواجه دوامة الرياح العاصفة التى تعبث بكيانه.. وبكيان دولة إسرائيل فى رحلة فارقة من تاريخ إسرائيل والشرق الأوسط والعالم كله!!
الآن يقولون فى واشنطن.. إنه لا يوجد سبب يجعلنا نفهم لماذا قامت حركة حماس الفلسطينية ضد إسرائيل فى ٧ أكتوبر الماضى سوى أن حماس تريد أن تقيم الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة فقد قامت حماس بهذا الهجوم.. فى عملية انتحارية كبرى ليس لها مثيل فى التاريخ.. رغم أنها لا تملك القوة العسكرية الكافية لهزيمة دولة إسرائيل.
ورغم تفوق إسرائيل العسكرى المطلق.. إلا أنها لم تكتشف هجوم حماس قبل وقوعه.. بل واستبعدت احتمالاته تماما.. باعتباره أمرا مستحيل التخطيط والتنفيذ.
والحقيقة العارية الآن.. هى أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية فشلت فى التنبؤ بهجوم حماس.. وفشلت أيضا فى فهم وإدراك طريقة تفكير وتخطيط حماس.
فلم يستهدف الهجوم تدمير قوة إسرائيل العسكرية.. لكنه كان يستهدف صناعة وتشكيل موقف جديد فى الشرق الأوسط موقف لا تستطيع فيه إسرائيل أن تتراجع عن المعركة والحرب وأن تضطر لحشد قوة عسكرية كبرى لأنها لا تريد تعريض حياة الرهائن للخطر.
كان واضحا أن اختطاف الرهائن له هدف واحد كما يقول الأمريكى جورج فريدمان.. وهو إشعال نيران الغضب فى أعماق دولة إسرائيل وفى أعماق كل إنسان يعيش فى إسرائيل.
ولأول مرة يشعر صانع القرار فى إسرائيل بالعجز التام ولأول مرة ينتشر الإحساس بانعدام الثقة بالنفس من القاعدة إلى القمة داخل إسرائيل.
نعم انتشر الإحساس بالعجز وانعدام الثقة بالنفس من كل مواطن فى تل أبيب.. حتى داخل أجهزة المخابرات الإسرائيلية وجنرالات الجيش الإسرائيلى وحتى بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وفى النهاية لم يكن هناك أمام إسرائيل أى بدائل سوى القيام بالهجوم الشامل على قطاع غزة مهما كانت النتائج خاصة مع بقاء مشكلة الرهائن بدون حل.
ومع أن نتنياهو حدد هدف الحرب بضرورة تدمير حركة حماس والقضاء عليها تماما إلا أن الهجوم العسكرى على شمال غزة أدى إلى تأكيد قوة حماس وليس إضعافها كما تصور نتنياهو والحقيقة أن قوة حماس السياسية قد تضاعفت وتضخمت بصورة لا يتصورها أحد مهما تكن نتائج الحرب.
وينسى الإسرائيليون دائما أن الحروب قضايا وشئون سياسية فى المقام الأول والأخير لكن إسرائيل بطبيعتها دولة قامت بالحرب وتعيش بالحرب.. ووجودها السياسى يعتمد دائما على مدى قدرتها على الحرب والقتال.. ومن الطبيعى أن يتلاشى وجود إسرائيل بمجرد تلاشى قدرة إسرائيل على الحرب.
ولذلك وجدنا مجلس الحرب الإسرائيلى بقيادة بنيامين نتنياهو يتخذ قرار الحرب والهجوم على قطاع قطاع غزة من الجو بهدف تهدئة الموقف الملتهب داخل إسرائيل أولا وقبل كل شيء وبهدف الحد من العداء لحكومة نتنياهو لدى الرأى العام الإسرائيلي.
ومن البداية تصورت إسرائيل أن الغارات الجوية والعمليات الخاصة سوف تؤدى إلى تدمير حركة حماس.. لكن حماس لجأت لحرب المدن وقامت بهجمات مضادة مفاجئة حققت خلالها انتصارات حقيقية وتعرضت إسرائيل لخسائر فادحة ليس فقط فى الدبابات والعربات المدرعات.. لكن فى الجنود وكبار الضباط.
وقامت إسرائيل بالهجوم الشامل على شمال قطاع غزة.. مما أدى إلى إثارة غضب واستنكار العالم كله وإدانته لجرائم الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
وتعرضت إسرائيل لضغوط دولية عميقة.. حتى من جانب أكبر حلفائها.. فى أمريكا وكان ذلك فى صالح حركة حماس وقضية الشعب الفلسطيني.
وفشلت إسرائيل حتى فى استغلال قضية الرهائن أمام الرأى العام العالمي.. الآن إسرائيل متورطة أمام العالم فى جرائم الحرب والإبادة.. والصورة فادحة أمام محكمة العدل الدولية.. بعد شكاوى مصر وجنوب افريقيا.
ومازال نتنياهو يرفض الاعتراف بالهزيمة والمسئولية عن الهزيمة ويرفض انسحاب إسرائيل الاستراتيجى وبعد أن كانت حماس هى السبب وراء الحرب أصبحت إسرائيل هى المتهم والمجرم الذى يرتكب جرائم الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
الآن.. أصبحت البدائل العسكرية أمام إسرائيل محدودة للغاية خصوصا بعد انقلاب الرأى العام العالمى ضد إسرائيل حتى داخل الولايات المتحدة.. أكبر حلفاء إسرائيل.
ويبقى نتنياهو تحت ضغط مطالب الرأى العام الإسرائيلى الذى يدعوه لسرعة إنقاذ حياة بقية الرهائن فى غزة.
وقد تساءل البعض.. وقال.. هل يوجد لدى الرأى العام الإسرائيلى قوات أو ألوية وفرق عسكرية.. والإجابة واضحة وهى لا يوجد لكن الرأى العام هو الذى يشكل العالم وهذا أمر حيوى للغاية لدولة صغيرة جدا مثل إسرائيل.
اليوم.. يمكن أن يقال إن حماس قد تمكنت بالصدفة أو بالمفاجأة الكاملة من توجيه ضربة قاصمة لقوة إسرائيل السياسية والعسكرية ولم تدرك إسرائيل حتى الآن كما يقولون فى واشنطن أنه توجد أنواع كثيرة من الحرب.
وأى نوع من الحرب يمكن أن ينتهى بهزيمة إسرائيل كما يقول جورج فريدمان.. وقد تصورت إسرائيل وتصورت قياداتها السياسية والعسكرية أن التفوق العسكرى والتكنولوجى الإسرائيلى هو قوة الردع الحاسم.
وتصور الإسرائيليون خطأ أن إسرائيل قوة كبرى أكبر من واقع إسرائيل الحقيقي.. كدولة صغيرة.. صغيرة السكان والمساحة.
غرور القوة جعل إسرائيل وبنيامين نتنياهو يبالغ فى مدى قوة إسرائيل العسكرية.. وإساءة تقدير قوة العدو ومدى قدرته على التفكير والتخطيط وسبق أن أخطأت إسرائيل فى تقديراتها لقدرة مصر على الحرب فى أكتوبر ٣٧٩١.
ومرة أخرى تكررت أخطاء إسرائيل الكارثية خلال هجوم حماس فى ٧ أكتوبر ويقول جورج فريدمان إن هذا درس مهم لإسرائيل ولأمريكا.. وللجميع؟!
وفشلت إسرائيل فى استيعاب درس حدود القوة.. بعد هزيمة أمريكا فى فيتنام.