أصبحت شاشات الهواتف الذكية سجنًا عصريًا نحبس أنفسنا فيه طواعية.. فالإدمان الرقمي، الذي بات وباء عصره، قد حوّل حياتنا إلى ساحة معارك مستمرة ضد اضطرابات النوم المزعجة، والصداع المبرح، ومشكلات الرؤية التي لا تنتهي، والشعور الدائم بالضغط العصبي.
في هذا الزخم الرقمي المحموم، غرقنا في مستنقع من السطحية والتفاهة، وباتت عقولنا أسيرة لتيار لا متناهٍ من المعلومات المتناثرة.
تبدأ الرحلة بمقطع قصير، ربما «ريل» عابر لا تتجاوز مدته ثواني معدودة، لكن ما تلبث أن تجد نفسك غارقا في دوامة لا تنتهي من مئات المقاطع المختزلة، تُطالع عينيك لكن لا تُغني فكرك بأي شيء.
إنه الإدمان الناعم، و«بخة الدوبامين» المزيفة، التي تسلب منك الوقت، وتسرق منك التركيز حتى تصبح عاجزًا عن تأمل نص عميق، أو تذوّق فكرة ناضجة.
ليس غريبًا إذن أن تعلن جامعة أكسفورد «تآكل الدماغ» مصطلح العام لسنة 2024.. إنه اعتراف ضمني بحجم الانهيار الفكري الذي تسببه حفلة التفاهة الصاخبة على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا التآكل لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة محكمة لوتيرة الاستهلاك السريع والمفرط التي تحدث عنها الكثير من الخبراء والكتّاب.
وفقًا لتقرير جامعة أكسفورد، يشير المصطلح إلى التدهور التدريجي للحالة العقلية أو الفكرية للفرد، والذي غالبا ما يعزى إلى الاستهلاك المفرط لمحتوى يعتبر سطحيا وتافها أو غير محفز، خاصة عبر الإنترنت. كما يستخدم المصطلح للإشارة إلى أي نشاط أو محتوى يعتقد أنه يسهم في هذا التدهور.
لكن المصطلح سرعان ما اكتسب دلالة جديدة في العصر الرقمي، حيث بدأ في الانتشار على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة على «تيك توك» بين مجتمعات الجيل «زد» وهم المواليد من عام 1997 إلى 2012، والجيل «ألفا» وهم مواليد عام 2012 وما بعده.
كما تمّ توظيفه بشكل أكثر تحديدًا وانتظامًا في الإشارة إلى الثقافة الرقمية، وغالبا ما يستخدم بطريقة فكاهية أو ذاتية الانتقاد من قبل المجتمعات الإلكترونية.
لقد بات واضحًا بالنهاية أننا أمام نوع جديد من الإدمان، ليس أقل خطورة من إدمان المخدرات، إنه إدمان السرعة، والمكافأة الفورية، الذي تسعى «المقاولة الرقمية» من خلاله إلى وضع أدمغتنا على كرسيّ متحرك، وجعلها عاجزة عن التخطيط والتركيز والشعور بقيمة الإنجاز الحقيقي.