بيد أن أخطر أنواع التواطؤ هو التواطؤ مع النفس، وهو أن يألف المرء منا شرور نفسه ويعبد هواه ويتحول إلي إمعة لشياطينه، فمن يكذب ثم يكذب ويمعن في الكذب حتي يصدق نفسه، ومن يهتف بالوطن صباحاً ويلعنه مساء ومن يخطب في الناس عن التسامح وهو يمارس أحقر أشكال الكراهية وهو ألد الخصام، ومن يتحدث عن الشرف والعفة نهاراً وهو غارق في مستنقعات الرذيلة ليلاً، وهناك من يألف قبحاً سائداً أو معصية مستترة، وكثيرون يتظاهرون بتصديق الكاذبين وتكذيب الصادقين وهم يعلمون، فيسيرون بين الناس لا يقدمون ولا يأخرون ”إمعات” كما يقول الكتاب، أري أحدهم يصفق لأحدهم في وجهه بحرارة وعندما يدير له ظهره تكون السخرية الشديدة والكراهية العميقة هي العنوان، وهناك من يعتاد رؤية الفاسدين ويتعامل معهم علي أنهم شرفاء أتقياء أنقياء.
>>>
عزيزي القارئ : هل وجدت نفسك متواطئاً في يوم ما؟ قبل أن تفكر وتجيب عن هذا السؤال المباغت، لابد وأن اعترف لك أولاً بأنني كثيراً ما وجدت نفسي متلبساً بتهمة التواطؤ! لقد تواطأت مع المتواطئين، فعلي سبيل المثال كنت أري من يكذب ويلحن في القول ولا أرده عما يقول اتساقاً مع تواطؤات اجتماعية سائدة، وكنت أستمع إلي بعض الذين يهتفون للوطن أمام الناس ويقسمون برؤوس آبائهم أنهم جاهزون للتضحية بأرواحهم من أجله، وعندما يختلون بأنفسهم يصبون لعناتهم علي الوطن والمواطنين والدولة بأكملها، ولم أواجههم أو أفضحهم بين الناس احتراماً لفقه سياسي فاسد اسمه “الشكل العام” أو انصياعاً لنصيحة من أحد المحبين “عيب أنت رجل دولة”.
>>>
ورغم قناعاتي بأن أي صمت علي أي خطأ كبر أو صغر هو تواطؤ مع هذا الخطأ ومع مرتكبيه ضد قناعاتك التي ترددها وتؤمن بها وتعيشكم أجلها، لكن السؤال الذي أحاول أن أطرحه هنا في هذه المساحة هو لماذا نتواطأ؟ وهل أصبح التواطؤ سلوكاً جمعياً؟ أنا شخصياً قابلت أناس كثيرين يمارسون سلوكيات غير مقتنعين بها وحين تسألهم لا تجد لديهم إجابات من أي نوع إلا الصمت، هل من الكياسة أن أتظاهر بتصديقهم وأمارس ما يمارسه العامة من تواطؤ أم أصرخ في البرية وأواجه هذا العبث؟
ويل للمتواطئين الصامتين العابثين، وويل لي إذا كنت من المدركين العارفين ووقفت في صفوف الصامتين.
>>>
فهل أصبح التواطؤ شكلاً من أشكال النفاق؟ وهل أصبح النفاق أسلوب حياة؟ وهل أصبحت الحياة الحقيقية الخالية من الزيف ضرباً من ضروب الخيال؟ هناك مفردات عديدة تحظي بكراهيتي واشمئزازي ونفوري يأتي في مقدمتها المتواطئ المنافق المبتز متعدد الأوجه المستغل، كثيرون نقابلهم ونضحك في وجوههم ونحن لا نطيقهم ولا نجرؤ علي البوح بمكنون صدورنا لا لشيء إلا لأننا نخشي أحكام العامة والدهماء، لكن الحقيقة أيضاً أننا مقيدون بقيود الحكمة، فليس كل ما يعرف يقال وليس كل ما نشعر به قابلا للبوح، فليس مستساغاً من جموع المجتمع أن تكون ضميراً يمشي علي قدمين تجابه وتواجه وتصارع وتنتقد ما تراه خاطئاً من مواقف أو قرارات أو شخوص، ليس مستساغاً دائماً أن تقول كلمة الحق مجردة، عليك أن تدللها وتضع عليها المساحيق حتي يقبلها الآخرون، بيد أنني متواطئ مع التواطؤ.