لا أعرف هل لابد أن أتظاهر بالتفاؤل بالأخبار المتواترة من مصر ومن عواصم كل القوى المؤثرة فى العالم عن قرب التوصل إلى الاتفاق الذى طال انتظاره لوقف إطلاق النار بين دولة الاحتلال الإسرائيلى وحركة «حماس» الفلسطينية فى غزة، أم أن مراجعة آخر اتفاق لوقف إطلاق النار وقعت عليه إسرائيل قبل خمسين يوماً، وهو اتفاقها مع حزب الله فى لبنان لا يسمح حتى بمجرد التظاهر بالتفاؤل؟
يوم الخميس الثامن والعشرين من نوفمبر الماضى ومع الساعات الأولى لبدء تنفيذ اتفاق لبنان، كتبت فى هذا المكان مقالا يلخص عنوانه رأيى فى الاتفاق وهو: اتفاق فى مهب الريح، رسمت فيه السيناريو الذى أتوقعه لتعامل إسرائيل معه، وهو السيناريو الذى نفذته إسرائيل- حرفياً- على الأرض من يومها وحتى الآن وستستمر فيه، حتى بعد انتهاء هدنة الستين يوما التى نص عليها وتنتهى فى السابع والعشرين من الشهر الحالي.
وباختصار تضمن هذا السيناريو ما يلي:
1- من حيث المبدأ، لا يتضمن تاريخ إسرائيل فى حروبها مع الدول العربية أو فصائل المقاومة بها التزاماً واحداً بأى اتفاق هدنة أو وقف إطلاق نار أو احتراما له.
2- دائما ما تتخذ إسرائيل هذه الاتفاقات وسيلة لزيادة «غلتها» من المكاسب التى لم تحققها خلال استمرار القتال.
3- لا تحتاج إسرائيل إلى اختلاق ذرائع لانتهاك أى اتفاق، لسبب بسيط، وهو أنها لم تتعرض لأى عقاب أو حتى لوم على هذه الانتهاكات ولو من رعاة الاتفاق أنفسهم.
4- لن تفعل اللجنة الدولية المكلفة بمراقبة تنفيذ الاتفاق على الأرض والمكونة من الولايات المتحدة وفرنسا شيئاً أكثر من تسجيل الخروقات وأطرافها لكى تجيز لإسرائيل استعمال حقها فى الدفاع عن النفس.
5- سيستخدم رئيس وزراء إسرائيل ورقة رفض وزيرى اليمين المتطرف فى حكومته للاتفاق لكى يقول للبنان ولراعيى الاتفاق- أمريكا وفرنسا- انه لم ينجح فى تمرير هذا الاتفاق إلا بشق الأنفس، وان غير ذلك سيؤدى إلى سقوط الحكومة، ولذلك لا أضمن الالتزام به غداً.
وكانت آخر جملة فى المقال تقول: ودعونا ننتظر لنرى.
وأظن أن كل من يتابعون الشأن اللبنانى رأوا ما جرى على الأرض للاتفاق خلال الخمسين يوماً التى مضت على بدء تنفيذه.
إسرائيل لم توقف عملياتها العسكرية فى لبنان يوما واحدا ولم تلتزم بتنفيذ بند واحد من بنوده أو تتعامل معه بحسن نية ورغبة فى وضع نهاية لعدوانها على لبنان، رغم التزام حكومة تصريف الأعمال اللبنانية بكل ما يخصها فيه.
انسحب حزب الله من الجنوب ومازالت القوات الإسرائيلية تعيث فيه فسادا وافسادا وتدميرا لبقايا ما تقول إنه البنية التحتية للحزب وتقتل المدنيين بل وعددا من أفراد القوة الدولية الموجودة فيه وتمنع اللبنانيين النازحين من قرى الجنوب من العودة إلى قراهم التى حولتها إلى مناطق عمليات حربية.
بدأ الجيش اللبنانى انتشاره فى الجنوب، لكن الوجود العسكرى الإسرائيلى غير الشرعى يحول بين الجيش اللبنانى وبين استكمال انتشاره وسيطرته على المنطقة.
أطلق لبنان الرسمي- بعد طول تعثر- مسار ترتيب البيت السياسى اللبنانى من الداخل.. اختار رئيساً للجمهورية تتوافق عليه كل القوى الدولية قبل المحلية، وكلف الرئيس مع البرلمان رئيساً جديداً للحكومة.. وأعلن الاثنان انه لن تكون هناك قوة فى الجنوب سوى الجيش اللبناني، ولن يكون هناك سلاح فى لبنان غير أسلحة الجيش.. ومازالت إسرائيل تضرب فى كل مكان فى الجنوب، وخارج الجنوب.
لقد قلت يومها ان الاتفاق خطوة على طريق الألف ميل، وحتى هذه الخطوة لم تكتمل إلى الآن، ولا توجد إرادة سياسية لدى المجتمع الدولى ممثلا فى مجلس الأمن، ولا فى راعيى الاتفاق: أمريكا وفرنسا لردع إسرائيل ووقف انتهاكاتها اليومية للاتفاق اللبناني.
فهل يتوقع أحد لاتفاق غزة- إذا تم- وأياً كانت نصوصه- ان تتعامل إسرائيل معه بسيناريو مختلف عن سيناريو لبنان؟!
لقد ظل نتنياهو على مدى شهور طويلة ماضية يماطل ويراوغ فى مفاوضات التوصل لاتفاق ويرسل وفوداً ليس لديها صلاحية الموافقة أو الرفض لأى شيء إلا بالرجوع إليه وتعطيل المفاوضات، ويوافق على الشيء ثم يعود عنه ويفرض شروطاً تعسفية خارج نطاق أجندة التفاوض، حتى وصل بالمفاوضات- من الناحية الزمنية- إلى المنطقة المفصلية بين إدارتين أمريكيتين ليستفيد ويعزز مكاسبه من كليهما.
إدارة راحلة تستعجل التوصل لاتفاق لوقف حرب كانت طرفا رئيسيا فاعلا فيها ليحسب الاتفاق لها كإنجاز وإدارة جديدة قادمة يهمها أن تنسب لنفسها النجاح كاستهلاك ايجابى لمهامها الدولية.
ولقد بذلت مصر قيادة وشعبا جهدا شاقا بكل المقاييس سواء من تبعات هذه الحرب على اقتصادها أو فى عملية التفاوض وتقريب وجهات النظر وسد الفجوات بين مواقف الطرفين لانقاذ ما يمكن انقاذه من مصير غزة وأهلها والقضية الفلسطينية وشعبها، حتى ان الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته- بايدن- قال صراحة للرئيس السيسي، ان اتفاق غزة المنتظر ما كان ليتم إلا بدور مصر وجهود قيادتها.
وللأسف.. مع إسرائيل يتحول أى اتفاق إلى حبر على ورق يتم انتهاكه قبل أن يجف.