كتبت هنا منذ شهور عن نظرية الرجل القش أو ما نسميه نحن في الغيطان والحقول « خيال المآتة « بيد أنني وجدت الفكرة تحتاج إلى إعادة صوغ دقيق نظرا لشيوع وانتشار تلك الظاهرة فعبر التاريخ وفي معظم القضايا الجدلية الكبرى التي تحمل قدرا واضحا من الشحن العاطفي والدق على أوتار القلوب تتحول فيها الحوارات إلى معارك تستهدف هزيمة الأشخاص الذين يحملون أفكارا محددة بدلا من دحض ونقد ومناقشة القضايا ذاتها، وقد تعرض ارسطو والكثير من الفلاسفة لمثل هذه الأمور، وخيال المآتة أوالرجل القش هو تلك الشخصية الوهمية المصنوعة من القش كدليل على شدة الضعف والتي يضعها البعض أمامه وهو يتحاور مع الآخر، يحاول هؤلاء تصويب سهامهم إلى « خيال المآنه « او الرجل القش ولا يتطرق إلى الفكرة من قريب أو بعيد، فإذا تحدثت في أمر كضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار في السودان فيرد عليك أحدهم لكن لابد أولا من وضع خريطة الوصول إلى حكم مدني ديمقراطي من خلال انتخابات نزيهة تشرف عليها الأمم المتحدة! فأنت تطالب بوقف أصوات المدافع وهو يطالبك بحضور عازف الكمان والعواد والفرقة الموسيقية، وإذا طالبت بوقف إطلاق النار في غزة فينبري احدهم ويتهمك بمحاولة ضرب مشروع المقاومة وان إقامة الدولة تحتاج إلى تضحيات ودماء، وإذا طرحت حل الدولتين تجد من يتهمك بدعم الصهيونبة والاعتراف بالكيان السرطاني في ارض المسلمين، إذا رفضت تهجير الفلسطينين إلى سيناء اتهموك باللاإنسانية، وإذا سمحت للمرضى بالعبور لتلقي العلاج في مستشفيات مصرية اتهموك بتصفية القضية وفق صفقة سابقة التجهيز، « فالرجل القش « او خيال المآتة جاهز لتفريغ الحوار الموضوعي من محتواه وتفتيت الأفكار الكبيرة إلى شظايا ومنمنمات وتفاصيل غير متماسكة، لقد تابعنا وقرأنا عن عدد هائل من المغالطات البهلوانية التي يستخدم فيها الرجل القش لإفشال الأفكار الجريئة والكبيرة، في السبعينيات وقف محامي احد المصارف الأمريكية مترافعا أمام المحكمة باحثا عن حكم بإدانة محاولة سرقة بنك هو موكله فوقف أمام هيئة المحكمة قائلا : »أقترح عليكم في حال لم يكن باستطاعتكم اعتبار هذا الدليل كافيًا للحكم على المُدعى عليهم بأنهم مذنبون أن نفتح أبواب جميع البنوك ونقول للصوص: هيا خذوا كل المال لأننا لن نكون قادرين أبدًا على إدانتكم.« هنا حاول المحامي إخافة القضاة في مغالطة بهلوانية فجة وبعيدا عن اصل وسياق القضية، وفي عام 1952 تعرض الرئيس نيكسون إلى اتهام خطير أثناء حملته الانتخابية لمنصب نائب الرئيس بتخصيص مبلغ 18000 دولار بشكل غير قانوني من صناديق الحملة لاستخدامه الشخصي وعندما أراد الرد والدفاع عن نفسه تحدث للجماهير عن هدية أخرى عبارة عن كلب وقال في حديث تليفزيوني« كان كلب صغير من سلالة سبينيلي تم إرساله في صندوق طوال الطريق من تكساس، وكان مرقطاً بالأسود والأبيض، أطلقت عليه طفلتي الصغيرة تريكيا والتي تبلغ من العمر ست سنوات اسم الداما (على اسم لعبة الداما ذات الاحجار البيضاء والسوداء). وكما تعلمون يحب جميع الأطفال الكلاب، وانا وأريد أن أقول ذلك الآن وبغض النظر عما يُقال فإننا سنحتفظ بالكلب.». هنا ايضاً استخدم نيكسون المغالطات البهلوانية ولم يرد على المبلغ وإنما تحدث على الكلب الذي لم يسأله عليه احد