من كان يصدق أن تتخلص مصر من فيروس «سي»؛ ذلك المرض الفتاك..فى مفارقة عجيبة حقاً تحققت فى أشهر معدودة نقلت مصر من دائرة أكثر الدول إصابة بالفيروس إلى أول دولة فى العالم تقضى على هذا الوباء، باعتراف منظمة الصحة العالمية التى كرمت «القاهرة» بشهادة ذهبية وجائزة Golden Tier المرموقة..بفضل المبادرة الرئاسية «100 مليون صحة» التى تبناها الرئيس السيسي.
تاريخياً لم يكن فيروس «سي» معروفًا حتى عام 1972، حتى أنه كان يطلق عليه مرض «المحب للكبد» و«المرض غير المعروف»..والأخطر أنه يحمل «جينًا سرطانيًا» يحرك الأورام فى جسم الإنسان، بعد زمن طويل.. وهو ما جعله كابوسًا مخيفًا لا يعلن عن نفسه إلا فى مراحله الأخيرة بعد أن ينتهى من التهام الأكباد بلا رحمة وهو ما عاناه ملايين المصريين على مدى عقود..حتى جاءت مبادرة الرئيس السيسى لتضع حدًا للمعاناة وتفتح صفحة جديدة لأكباد المصريين.
مخيفة هى أرقام الإصابات بفيروس «سي» فى مصر قبل مبادرة الإنقاذ الرئاسية؛ إذا كانت تتراوح بين 15 و 18 مليون مصاب، بين حالات مكتشفة، ومرضى يحملون أجساما مضادة دون أن يعرفوا أنهم مصابون بفيروس التهاب الكبد الوبائي.
شخصيًا..وقبل 30 عامًا اكتشفت إصابتى بفيروس «سي» قدرًا وبمحض الصدفة.. حين كنت فى زيارة عمل لباريس أجريت فيها فحوصات وتحاليل وأشعات فى المستشفى الأمريكى هناك من باب الاطمئنان؛ لتتأكد إصابتى بالمرض المرعب وقتها ولم أكن أعلم عنه شيئًا.. ورغم وطأة الخبر على نفسى لكنى احتفظت بالسر فى داخلى ولم أخبر عنه أحدًا..ومن لطف الله بى أن اكتشاف المرض كان فى البدايات الأولي.. والحمد لله أن الأشعة وقتها لم يظهر فيها أى أضرار بالكبد..لكن ذلك لم يمنع الصديق الدكتور محمود المتينى الطبيب المعالج رئيس جامعة عين شمس السابق أن يقرر لى –حينها– علاجاً طويلاً وصعبًا تجرعته فى صمت (48 حقنة لعلاج الفيروس بمعدل حقنة واحدة كل أسبوع تتكلف 1600 جنيه، وهو رقم لو تعلمون كبير، بأسعار تلك الأيام) تحملتها كلها على نفقتى الخاصة؛ وأخفيت الأمر عن أقرب المقربين مني، فلا عرفت به أسرتى ولا زملائى فى العمل؛ حتى لا تصيبهم صدمة الخوف والإشفاق عليّ من التداعيات الأليمة للمرض الذى لم تكن نسبة الشفاء منه تتجاوز 40٪ فى أحسن الأحوال..تحملت قسوة الآثار الجانبية للعلاج والتكلفة الباهظة فى رضا وإيمان وتسليم بقضاء الله الذى أكرمنى وتفضل عليّ بالشفاء التام من وباء كان من الصعوبة بمكان الإفلات منه، فضلا على أن مجرد ذكر اسمه كان يصيب الناس أيامها بالرعب والفزع نظراً لصعوبة التعافى منه وسهولة انتقال العدوى من المرضى للأصحاء كانتشار النار فى الهشيم لأسباب كثيرة أهمها استخدام الحقن «الدوارة»، وقلة الوعى وعدم نجاعة العلاج.
ولا أنسى يوم صارحت الزميل الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ سمير رجب رئيس مجلس إدارة دار التحرير ورئيس تحرير جريدة الجمهورية الأسبق بالأمر بعد الشفاء منه، فأبدى انزعاجه ودهشته وبادرنى معاتبًا: لماذا لم تخبرنى بالأمر؛ فمن حقك على المؤسسة (جريدة الجمهورية) أن تتكفل بعلاجك..فقلت له: لقد فضلت الاحتفاظ بالسر فى نفسى نظرًا لحساسية الموقف وخطورته.
وكان فضل الله عليَّ كبيراً؛ إذ أنعم عليّ بعد عام كامل من تناول العلاج بالشفاء التام حتى حين اكتشفوا العلاج الجديد (سوفالدي) وراجعت الطبيب أخبرنى أننى لست فى حاجة لتناوله لأننى بالفعل شٌفيت من مرض كان يصعب الخلاص منه بالعلاج التقليدى القديم، وهذه نعمة كبرى أنعم بها الله عليّ، كما أخلف الله سبحانه عليّ ما أنفقته فى العلاج من تكلفة باهظة..ولما تماثلت للشفاء لم أجد بدًا من إخبار أسرتى والمقربين منى بهذا الأمر.
فيروس «سي» تعددت أسباب انتشاره فى مصر، لكن تبقى حقن علاج البلهارسيا أهم عوامل تفشى هذا الوباء لينهش أكباد المصريين بفضل الإهمال الشديد وقلة الإمكانيات وضعف الوعى وأعرف زملاء ومشاهير كثيرين قضوا نحبهم ضحايا لهذا المرض الفتاك، ولعل البلهارسيا كانت أخطر ما عرفت مصر من أمراض؛ ذلك أنها تتسبب فى إضعاف وإحباط مناعة المريض، وكان يتم علاجها بحقن «الترترإنترتيك»، التى كانت تؤخذ «بالحقن الزجاجية» التى يحتاج تعقيمها إلى فترة طويلة، الأمر الذى جعل الكثيرين يهملون هذا الإجراء فساهم ذلك فى انتشار الفيروسات الكبدية..ناهيك عن سلوكيات كثير من الحلاقين الذين يعيدون استخدام شفرات أمواس الحلاقة مع أكثر من شخص فتنتقل الإصابة من المريض إلى السليم، كما تتسبب عيادات الأسنان هى الأخرى وضعف إجراءات تعقيم الأدوات فى نقل نسبة لا بأس بها من العدوى من المصابين بالفيروس الكبدى (C).
وسبحان الله الذى ألهم العلماء القدرة على اكتشاف الدواء العبقرى لفيروس «سي» الذى يقضى على المرض بسرعة ودون آثار جانبية مؤلمة.. وتخلصت مصر فى أقل من 10 سنوات من إرث هائل مرض عضال بفضل مبادرة الرئيس السيسى (100 مليون صحة) التى قامت بأكبر مسح صحى للكشف عن المرض وعلاجه بالمجان، ونجحت فى فحص 63 مليون شخص وعلاج 4.5 مليون مريض من فيروس سى ، ومثَّلت العلاجات المضادة للفيروسات ذات المفعول المباشر المُصنَّعة محليًّا عاملًا رئيسيًّا فى النجاح الملحوظ الذى حققته الحملة بنسبة شفاء بلغت 99٪.. وهو رقم لو تعلمون عظيم.
وأخيرًا جاء اليوم الذى تتسلم فيه مصر شهادة خلوها من فيروس «سي» من منظمة الصحة العالمية، بعد نجاحها فى الوصول العادل إلى رعاية مرضى فيروس التهاب الكبد بالمجان فى كل مكان.. فمن كان يتوقع أن تنجح الدولة فى خفض معدلات حالات الإصابة المؤكدة بالفيروسات الكبدية إلى أقل من المعدلات العالمية من مرضى الفيروس، حيث انخفضت النسبة إلى 0.38٪ عام 2022كما انخفض معدل انتشار فيروس سى إلى 3.2٪ فى عام 2020 بعد أن كان نحو 14.7٪ بين الفئة العمرية من 15 إلى 59 عامًا عام 2008، وذلك بفضل ما جرى اتخاذه من تدابير احترازية ووقائية وعلاجية غير مسبوقة.
بلوغ المستوى الذهبى يعنى أن مصر قد أوفت بالمتطلبات البرمجية التى تؤدى إلى خفض حالات العدوى والوفيات الجديدة الناجمة عن التهاب الكبد C إلى مستويات تؤهِّلها للقضاء على الوباء ؛ حيث قامت بتشخيص 87٪ من المتعايشين مع التهاب الكبد C، وقدَّمت العلاج الشافى إلى 93٪ من الأشخاص المُشخَّصين به، وهو ما يتجاوز الغايات المحددة للمستوى الذهبى لمنظمة الصحة العالمية، وهى تشخيص 80٪ على أقل تقدير من المتعايشين مع التهاب الكبد C، وتوفير العلاج لما لا يقل عن 70٪ من الأشخاص المُشخَّصين به.
ما تحقق فى ملف علاج فيروس سى إنجاز كبير نقل مصر من بلد يملك أحد أعلى معدلات العدوى بالتهاب الكبد C فى العالم إلى بلد حقَّق مسار القضاء على المرض فى أقل من 10 سنوات، هى مسيرة مذهلة بشهادة كبرى المنظمات الصحية الدولى وهو ما يبثَّ الأمل فى النفوس أننا بالإرادة نستطيع عمل المستحيل، وأنه لا شيء عصيًّا على النجاح إذا توفر الالتزام..ومن يدرى فربما يأتى يوم قريب يتوصل فيه العلماء لعلاج فعال وناجع لمرض السرطان كما حدث مع فيروس «سي»..ندعو الله أن يلهم العلماء القدرة على الوصول لدواء لهذا المرض الخطير..إنه على كل شيء قدير.