بينما نحن جلوس بعد صلاة التراويح.. ندعو الله ونحكى عن ذكريات رمضان ونحن صغار.. إذ بالشهر الكريم يقبل علينا بفرحة شديدة وكأنه يعلن فرحته بفرحة المسلمين لمقدمه.. وفرحة الصائم بقدوم الشهر الكريم.. ألقى علينا التحية ونحن سعداء بمقدمه، وسأله أحدنا: فيم قدومك الآن أيها الشهر الكريم؟، ابتسم ابتسامة بسيطة وقال: صحح السؤال، فأنا قدمت منذ أيام، أما حضورى الآن للجلوس معكم لأننى وجدت حاجتكم لحوار خاص ولديكم تساؤلات تحتاج إجابة.
قلنا فى صوت واحد: مرحباً وأهلاً بك أيها الشهر الكريم.. نحن فعلاً كنا فى حاجة للحوار معك.. وكنا نريد أن نعرف إجابات لأسئلة تبدو بسيطة، لكنها مهمة جداً لنا.
ابتسم الشهر الكريم وهو يقول: هاتوا ما عندكم.. كلى آذان صاغية.. قلت للشهر الكريم: نحن نؤمن بالله ونطيعه، لذلك نصوم رمضان كفرض من الفروض الخمسة، لكن السؤال هو لماذا لصوم رمضان فرحة أكبر كالحج مثلاً؟
ضحك الشهر الكريم وقال: الصوم فرض أمرنا الله به، فأطعناه وهذا هو لب الإسلام «سمعنا وأطعنا» ولكن مع الصوم تظهر آثاره وفوائده، فإذا كان رسولنا الكريم يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فالصوم فى حقيقته خُلق رفيع ويبرز الأخلاق مثل خلق الصبر، ويقول رسولنا الكريم: «إن شهر رمضان هو شهر الصبر»، فإذا قويت إرادة الإنسان فى الامتناع عن الطعام والشراب وعن الشهوات، فهذا صبر.. والصبر سلاح التقوى وهو الوسيلة الأولى لتنمية التقوي، فالتقوى هى القدرة على أن تقى نفسك بما يقيك مما هو حرام أو سلبي، وبالتالى فإنك تكون قادراً على استحضار مراقبة الله سبحانه وتعالي.
عندما تكون صائماً فإنك تمتنع عن الأكل والشرب والشهوات، رغم انك تكون وحدك وليس معك سواك، لكنك تعلم أن الله يراك، فإذا لم تكن تراه فإنه سبحانه وتعالى يراك.. وقد تجوع وتعطش جداً، ولكنك ترفض أن تفطر وأنت وحدك لأنك تطبق أمر الله وتعلم أنه سبحانه وتعالى يراك حتى ولو لم تكن تراه.. وهذه درجة الإحسان.
عندما وجدنا الشهر الكريم صامتين ولا نعلق أو نرد، سألنا: هل أنتم معى أم تراكم تفكرون فى أمر ما؟، قلنا فى صوت واحد: لا كلنا آذان صاغية، فاكمل إجابتك.
قال الشهر الكريم: حدثتكم عن فضيلة الصبر.. ولكن هناك فوائد أخرى لعل أهمها أن الله يصفد الشياطين فى رمضان، فتكون المعركة مع الانسان ونفسه الأمّارة بالسوء فقط، وعندما تقوى إرادة الإنسان فى مواجهة الجوع والعطش والشهوات فإنه يقوى الإرادة فى مواجهة النفس، ويقوى مراقبة الله سبحانه وتعالي، وبذلك يهزم النفس الأمارة بالسوء.
قلت للشهر الكريم: قد يبدو سؤالى هذا مبكراً، ولكن سأسألك عن النصيحة التى تنصحنا بها الآن لما بعد رحيلك عنا فى نهاية الشهر؟.. ضحك الشهر الكريم وقال وهو مازال يبتسم: عندما تتعود الآن على قراءة القرآن يومياً، فإن هذه العادة ستستمر معنا بعد رمضان.. ومادام الإنسان يصحو قبل الفجر بساعة على الأقل ليتسحر ويتهجد ويقرأ القرآن، فإن استمرار هذه الحالة لمدة شهر سيجعلها عادة يومية، وهذا هو العلاج.. وعندما نصلى النوافل ونحافظ عليها فى الشهر الكريم، فإنه كما يقولون: إذا التزم الإنسان لمدة شهر بفعل شيء أو اجتنب شيئا آخر لمدة شهر، فإن هذا الأمر يصبح جزءاً من عادات وسلوك الانسان، فيستمر عليه بعد رمضان.
سأل صديقي: وهل من نصائح أخرى فى هذا الشهر الكريم؟
قال: أحذر من العادات السيئة التى ارتبطت بشهر رمضان، مثل متابعة المسلسلات وقضاء وقتك على الانترنت وكل ما يضيع الوقت فيما لا يفيد، وحاول الابتعاد عن أى عادة سلبية كالتدخين أو غيره.
وبعد فترة صمت قصيرة، قال الشهر الكريم: الصوم جنة وحصن للصائم، والصوم يفتح أبواب الجنة، فحاولوا أن تستفيدوا من الصوم بحق، بحيث نهجر الشهوات وأن نرتبط حباً بالطاعات ولا تنسوا أن الصوم لله وهو سبحانه يجزى به.. فإذا كانت الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله لمن يشاء.. فإن الصوم لله وهو سبحانه وتعالى يجزى به، وهى ميزة للصوم، خاصة أن الله يوفى الصابرين أجرهم بغير حساب وهو ما يعنى أن الصبر فى الصوم على الجوع والعطش والشهوات واجتنابها لوجه الله، يعنى أن الطريق إلى الجنة مفتوح أمام الصائم، لأن الصابر يأخذ أجره بغير حساب، فيدخل الجنة بغير حساب أو سابقة عذاب، وإذا كان الصوم امتناع عن الأكل والشرب، فإن جزاء ذلك أن تأكل وتشرب هنيئاً بما أسلفتم فى الأيام الخالية، وهى صوم رمضان.. فالله وحده سبحانه وتعالى يعلم حقيقة الصوم، لأنه يعرف سر الصائم طاعة أو عدم طاعة.
قال صاحبى على استحياء للشهر الكريم: لقد قيل لى يوماً إن للصوم درجات، فهل هذا حقيقي؟
قال الشهر الكريم: كل عمل سواء كان حلالاً أو حراماً له درجات، والصوم عبادة لها درجات وهى صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص.. كيف ذلك؟
صوم العموم هو الامتناع عن الطعام والشراب وكافة الشهوات، أما صوم الخصوص فهو منع السمع عن الاستماع إلى ما يغضب الله ومنع البصر عن النظر إلى ما يغضب الله وكف اللسان عن النطق والحديث فيما لا يرضى الله ومنع اليد عن الاقتراب مما حرم الله ومنع الرجل عن السير إلى ما يحرمه الله ومنع كل الجوارح عن الآثام والخطايا وما يغضب الله.
قلت: وما صوم خصوص الخصوص؟
قال الشهر الكريم: هو صوم القلب.. فلا يفكر القلب إلا فى رضا الله وهو يعلم أن الله يراه.. قلت: وما الفرق إذن بين خصوص الخصوص وصوم الخصوص؟
قال الشهر الكريم: صوم الخصوص هو صوم الصالحين وأولياء الله وذلك– كما قلت– يبتعد عن أن يذكر لسانه كذباً أو بهتاناً وعن النميمة والغيبة والمراء والخصومة «لتقل خيراً أو لتصمت»، وأن تشغل اللسان بذكر الله وقراءة القرآن، وقد قال الحبيب المصطفي: «إذا كان صوم أحدكم فلا يجهل ولا يرفث فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل أنى صائم».
وكما كان هناك صوم للسان، فهناك صوم للأذن.. فإذا سمعت ما يغضب الله، اترك المكان ولا تستمتع إلا إلى ما يرضى الله، فالله سبحانه وتعالى سوى بين سماع الكذب وأكل السحت فى قوله سبحانه وتعالي: «سماعون للكذب أكالون للسحت».
أضاف الشهر الكريم: هل تعرفون أن الإفطار على طعام من حرام أو هو نفسه محرم، لا يجوز حتى وإن صائم، وقد قال الحبيب المصطفي: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش»، ويقول بعض العلماء ذلك الذى يفطر على الحرام أو يفطر على الغيبة أو يفطر على الآثام، قيل إنك إن أكلت على الأفطار بعد الصوم أكلاً حلالاً لكنك أكلت أكثر من طاقتك وأكثر مما تحتاج وأنت تعلم أن هناك من لا يجد طعاماً.
ببساطة شديدة، فإن صوم الخصوص هو صوم الأصنف بن قيس عندما قيل له إنك شيخ كبير ولا تقوى على الصوم فافطر، فقال: لكن السفر طويل والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه.
يقول أحد العلماء: الإنسان روح وجسد، وإذا كان للجسد مطالب من جنس عالمه السفلي، فإن للروح مطالب من جنس عالمها العلوي.. فإذا أخضع الانسان احتياجات روحه لمطالب فى جنس غريزته من عقله، تحول من ملاك رحيم إلى حيوان ذميم وشيطان رجيم.
< قال شاعر فهم حقيقة الإنسان:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته
أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان.
إن رمضان مغنم فاغتنموه.. وأكثروا الدعاء وقراءة القرآن والصلاة على الحبيب المصطفي.. وأخلص النية لله، فإن الله لا يقبل فى العمل إلا ما كان خالصاً ولا يبغى إلا وجه الله.. وغض بصرك عن الحرام واحمى لسانك من الكذب والغيبة والنميمة وتضبط انفعالاتك واكثروا من الصدقات واجعل قلبك دوماً معلقاً بالخير والخوف من الله والرجاء فى الله ولا تنس ليلة القدر والعشر الأواخر فى رمضان واحذر الغش فى المعاملات والكذب، واحرص على حسن الخلق وأجب دعوة الداعى إلى الخير.
وهنا فتحت عيني، فلم أجد أحداً بجواري.. بل وجدت نفسى نائماً وأنا جالس وحدى ولم أجد الشهر الكريم.. لكن نصائحه مازالت ترن فى أذني، لعل الله يفيدنى بها ومن أراد الله به خيراً فقهه فى الدين.
همس الروح
>> شهر رمضان هو شهر الحب والعطاء والقرب من الله.
>> الروح من أمر الله ولا يعلم أمرها إلا هو.. وهى وسيلتنا لكل خير وطريقنا إلى الجنة، فانصرها على رغبات جسدك.
>> الحب هو لغة الروح ولسان حاله.. فتحابوا فى الله.
>> رمضان فرصة لمن يريد أن يعود إلى نفسه وإلى ربه.
>> تبسمك فى وجه أخيك صدقة، فما بالك بمساعدته أى مساعدة؟