لم يعد انكفاء الدول على نفسها وتحديات أوضاعها الداخلية فقط هو الخيار الأمثل فى ظل عالم تموج أقاليمه بصراعات وحروب تستهدف تغيير الخرائط الجغرافية وإزالة بعض الدول التى انتهت وظيفتها من على هذه الخرائط، بيد ان التفرقة بين «الكمون الإستراتيجي» المخطط والذى جاء وفق دراسات وبين الانهزامية والاستكانة والشعور بضعف المكانة الإقليمية والدولية، من هنا وجب علينا أيضاً التفرقة بين الرغبة فى الخروج من شرنقة الكمون المخطط والرغبة فى المناكفات التوسعية والرغبة فى التدخلات الخارجية وما يتبعها من مغامرات غير محسوبة، كذلك يجب توضيح ان الخروج من الكمون لم يعد اختيارا وإنما أمر فرضته قواعد اللعبة التى باتت أيضاً قيد التغييرات المستمرة، وعندما ننظر إلى السياسات المصرية الراسخة سنجدها عاكسة لحضارة وتاريخ وجغرافية وثبات ومكانة الدولة المصرية، عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخري، ضرورة الحفاظ واحترام الدولة الوطنية والجيوش الوطنية وعدم التعامل أو الاعتراف بالميليشيات أو القوى الفاعلة من دون الدولة، عدم الانضمام أو الانخراط فى إحلال عسكرية، عدم القبول بإقامة قواعد عسكرية أجنبية على أرض مصر، الإيمان بعدم الانحياز، الإيمان بالسلام كخيار إستراتيجي، جيش مصر لحماية مصر ومقدراتها ومؤسساتها وحدودها، الإيمان بأن مصر عربية أفريقية إسلامية قبطية متوسطية شرق أوسطية، أمن الدول العربية من أمن مصر فى دوائرها الخمسة المشرق العربى والمغرب العربى والقرن الأفريقى ووادى النيل والخليج، لقد خطت مصر خطوات غير مسبوقة فى مشروعها الوطنى واستطاعت بمهارة غير مسبوقة ممارسة أقصى درجات الصبر الإستراتيجى والحكمة البالغة ولم تتورط فيما كان مخططا لها ان تتورط فيه من حروب وصراعات سواء فى ليبيا أو السودان أو إثيوبيا أو اليمن أو فلسطين أو شرق المتوسط، استطاع ربان السفينة الماهر المخلص ان يفوت الفرصة على هذا الطابور الذى لا يحمل رقما والذى يهدف إلى الزج بمصر وشعبها فى آتون الصراعات التى لا تنتهي، لكن مصر وإدارتها كانت واعية لكل ما يرتب ويدار ويخطط لنفاد صبرها، والحمد لله خرجنا من عنق الزجاجات جميعها بتوفيق نادر، فى تقديرى ان مرحلة الكمون الإستراتيجى – ذلك الشعار الذى صكه الدكتور عبدالمنعم سعيد المفكر وخبير العلاقات الدولية – لم يعد مناسبا لهذه المرحلة التى وصلت فيها الصراعات إلى حد الجنون، ولم يعد من المقبول التعامل مع الملفات المشتعلة من مقاعد المتفرجين كما ينادى البعض، فالمراقب لسلوك مصر الدبلوماسى وتحركاتها الخارجية فى مجمل الملفات يكتشف ان الكمون الإستراتيجى المعلن كان فى واقع الأمر لافتة مرفوعة لامتصاص الصدمات والأزمات، لكن الواقع ان مصر كانت متواجدة ومؤثرة وفاعلة فى كل الملفات الإقليمية فلم يكن من المقبول ان تخرج مصر من معادلات الأمن الإقليمى والأمن القومى العربي، لكن تطوراً إستراتيجياً قد حدث بهدوء ودون ضجيج لدور مصر الإقليمي، فيما يبدو أنه تم الانتقال من مرحلة الكمون الإستراتيجى إلى مرحلة الاشتباك التكتيكى والخربشة الإستراتيجية فى محاولة جادة لاكتساب كروت جديدة وخلق فرص مختلفة من العدم تمكن متخذ القرار من استخدامها على موائد المفاوضات أثناء صياغة المعادلات الجديدة، بالأمس تابعنا القمة الثلاثية العاشرة بين القاهرة وأثينا ونيقوسيا فى إطار آلية التعاون الثلاثى الذى وصف بأنه نموذج يحتذى للتعاون الإقليمى الصادق والهادف، والذى انطلق منذ عام 2014، أيضاً ستكون هناك قمة ثلاثية بين مصر واريتريا والصومال خلال الفترة القادمة لترتيب الأوضاع وتنسيق المواقف فى منطقة القرن الأفريقي، معنى ذلك أن فكرة الكمون الإستراتيجى غير موجودة تماما بل على العكس تماما انتقلنا إلى مرحلة أطلق عليها تجاوزا «الخربشة الإستراتيجية» وهى بمثابة تحركات مرسومة ومخططة تهدف لخلق أوراق جديدة تحتاجها الإدارة المصرية.