“لقد سطرتُ ذكرياتى التى قادتنى إلى رواية الأشياء التى مرت بها مصر. إذن مهمتى انتهت، لكن يشغلنى نفس القلق دائما.. مستقبل البلاد
يقلقنى : هل ستظل الحالة الراهنة إلى الأبد؟ أم أنها ستكون مجرد حالة مؤقتة؟ هل ستخضع مصر كما فى الماضى بواسطة قوى أجنبية وسلالات أجنبية دائما ما انتهى بها الحال بأن تحتويها مصر؟ “هذه ليست كلماتى وإنما هى لنوبار باشا تلك العبارة التى كتبها فى ختام مذكراته التى أتمها فى مايو 1894، اما لماذا اذكرها الآن وأستشهد بها بعد مــرور اكثــر من 130 سنة؟، بيد أن السبب الرئيس كانت كلمات الرئيس السيسى فى كنيسة ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة أثناء حضوره لتهنئة الأخوة الأقباط بعيدهم، قال الرئيس ما معناه- وكنت أشرف بالحضور- (اعلم أن هناك قلقا، فأنا أتابع كل شيء لكن هذا القلق مشروع وإيجابى ايضاً، لكن متخفوش مصر كبيرة اووى وكل ما يجرى ويدور جرى ودار من قبل، فالظروف التى يراها البعض استثنائية هى فى حقيقة الأمر باتت اعتيادية، وعلينا ان نثق بأنفسنا، ومخزون الحب بين المصريين هو سر هذا التلاحم الوطنى وهذا التلاحم والاتحاد هو سر قوة مصر)
>>>
عدت إلى منزلى ودخلت مكتبى وسحبت كتاب مذكرات نوبار باشا واخذت اقرأ بعض الموضوعات حتى وقعت عينى على تلك الكلمات التى تؤكد ما قاله الرئيس أمس ، أعود إلى كلمات نوبار باشا الذى يقول “ما أعرفه هو أن مصر أصبحت أكثر من أى وقت مضى ضمن هذه المجموعة من الأمور التى اتفق الجميع على تسميتها (المسألة الشرقية). فمن سيسمح لها بأن تخرج من هذه الدائرة وتصبح حالة خاصة؟ بالتأكيد سيكون تنظيم العدالة التى ستطبق حتى فى وقت الأزمة- إن كانت هناك أزمة ستحدث- من شأنه أن يشكل دولة قادرة على النهوض بنفسها وأن تحيا حياتها المستقلة والخاصة وترعى مصالحها الخاصة وتحافظ على مصالح كل أهل البلاد، وهذا البلد الذى يُعَدّ الطريق الذى يربط الشرق بالغرب.
لكن العدالة جاءت متأخرة جدا، ومن قبلها جاء عامل آخر هو افتتاح قناة السويس، أليست تلك القناة امتداداً للدردنيل؟
>>>
إذن كان مصيرها مرتبطاً إلى الأبد بمصير المصالح الكبيرة التى كانت أوروبا تتنافس عليها وبالمسألة الشرقية التى سيتم حلها.. ومن يعرف هل بالقوة أم العنف حفظنا الله منهما؛ فأنا لا أحب الخراب، أم ستحل بشكل سلمى بتطوير الإمبراطورية نفسها عن طريق الانتهاء من مد سكك الحديد وهى الوسيلة الوحيدة الفعَّالة من أجل جلب العنصر الأجنبي، وعنصر آخر هو هذا الشيء السامى الذى لم يعرفه الشرق وهو (الأمان).
لكن إذا لم أجد الإجابات عندما أتساءل عن مستقبل مصر السياسي، فإن التفكير لم يعد هو نفسه عندما أتحول بعقلى إلى هذا الشعب المرح، الرقيق مثل الطفل، والذى يتحول فى لحظة إلى مشاغب كالطفل أيضا.
كم من الأجانب احتلوها! كم من الشعوب دهَست بأقدامها أرض مصر بدءا من ملوك الرعاة “الهكسوس” إلى آخر المماليك، جميعهم تركوا آثار أقدامهم وبصماتهم منارات وعجائب كلها سحر ورونق،.
>>>
لكن كلهم استغلوا وتجاوزوا الحدود فى استغلال هذا الشعب الذى عمل بجد وعرق وشيد لهم هذه الروائع والآثار التى نعجب بها دون أن نفكر فى الألم الذى عانى منه الشعب.. فى حين أن لا أحد من هؤلاء الحكام استطاع التغلغل فى أعماق هذا الشعب الذى ظل ساكناً مثل المحيط.
لكن الآن دخل عنصر جديد فى كيان هذا الشعب؛ العدالة التى تُشكل أمامهم الحياة الفردية، وهى عنصر التقدم الذى حل محل الحياة (الجماعية)، والأساس التقليدى للاقتصاد الاجتماعى والحكومى فى الشرق الذى يعد فيها الفرد جزءاً من الكل، جزءاً من مجموع يضيع بداخله.. أيّا كان المستقبل الذى ينتظر مصر أن تستقل أو تظل محتلة فإن العدالة ستظل قائمة تقف بين الحاكم والمحكوم. إن الفلاح أصبح مسلحاً بها ولن يحرم مجبراً من ثمار تعبه وحرثه.
>>>
إن ما سيعطيه الله له سيتمكن من الحفاظ عليه والتمتع به والتسبيح بحمد الله.. إن بلاده لم تعد بلاد عبودية، وبيته لم يعد بيت عبيد. الله أكبر، كل شيء يأتى من عنده وفيه تكمن أسباب القوة والنجاح.