الفيل شجاع ووفى ومرح وخفيف الظل
ذاكرة الطفولة تحتفظ للأفيال بمكانة خاصة، فالفيل شجاع ووفى ومرح وخفيف الظل ويظهر فى الأوقات الحرجة لينقذ البطل من الأشرار، وهو رشيق رغم ضخامته، طيب رغم شكله الكفيل بإثارة الفزع. كان هذا كل ما أعرفه عن الأفيال فى طفولتي، وكان مصدرى الأول الأفلام الهندية التى قدمت خلال عقدى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى روائع درامية تدور دائماً حول فيل شديد الوفاء وبطل تكالبت كل الظروف عليه وصداقة تجمع بينهما تفوق كل ما يعرفه البشر من معان إنسانية.. حتى أننى فى وقت من الأوقات تمنيت اقتناء فيل صغير لينقذنى من أحد الزملاء فى المرحلة الابتدائية والذى كان طويلاً جداً وبدينا جداً جداً، حتى أنى كنت عندما أقف إلى جواره ابدوا كقزم صغير، زميلى هذا كان يقاسمنى طعامى إجبارياً كل يوم ولا أجرؤ على الاعتراض ليس جبنا منى ولكن احتراما للفوارق «الفسيولوجية» بيننا.
ظل الفيل يداعب خيالى حتى تسبب لى فى «علقة» ساخنة على يد والدى «رحمه الله» حدث ذلك عندما ذهبنا إلى حديقة الحيوانات لقضاء أحد أيام العطلة الأسبوعية.. وكان والدى حريصاً على أن يصحبنا كل أسبوع فى رحلات إلى الحدائق والمناطق السياحية، وكان يرى أن مثل هذه الرحلات تضيف إلى معارفنا ما يفوق بكثير العلوم المدرسية والمناهج النظامية. وأثناء جولتنا فى الحديقة حدث هرج ومرج وعرفنا أن احد الأفيال هرب من حظيرته وانه ثائر وغاضب لسبب مجهول، وأنه سوف يفتك بالتأكيد بكل من يقف فى طريقه. انتابت زوار الحديقة حالة هستيرية وأخذوا يعدون فى كل مكان.. وحمل والدى شقيقى الأصغر وطلب منى وشقيقتى أن نجرى معه للوصول إلى ربوة مرتفعة حتى نكون فى مأمن من الفيل الثائر.. وبدأ يعدو بالفعل ليكتشف بعد لحظات أننى ما زلت واقفا فى مكاني، أنتظر الفيل الذى أحبه لعله يقبل صداقتى ويخلصنى من زميلى العملاق.. وكان الضرب نصيبى بالطبع.
عشقت الأفلام الهندية بسبب الأفيال، وعشقت الأفيال بسبب الأفلام الهندية.. أحببت سيرك «محاسن الحلو» لأنه كان يخصص فقرة لعروض الأفيال.. وأصبحت عضواً دائماً فى كل الرحلات المدرسية إلى حديقة الحيوانات، لأنها تتيح لى رؤية صديقى الفيل عن قرب.. وكان غريباً أننى أخاف ـ وما زلت ـ من الكلاب لدرجة الرعب وأداعب الفيل العملاق وكأنه قزم صغير.
استدعيت كل هذه المواقف من مخزون الذاكرة وأنا أقرأ تفاصيل قصة الفيل الذى شعر بالاكتئاب وذهب يشكو همه إلى رجال الشرطة فى أحد أقسام البوليس بالأرجنتين. كان هذا الفيل يشارك فى عروض السيرك ويستمتع بالتصفيق وصيحات الاعجاب، وأصيب بالاحباط بعد أن منع من المشاركة فيها، بسبب قرار بلدية سانتافى «وسط الأرجنتين» بحظر استخدام الحيوانات فى عروض السيرك، واضطر السيرك إلى التخلى عن خدمات الفيل. ولأنه ولد فى السيرك وعاش حياته كلها يمارس العروض ويستمع إلى تصفيق وإعجاب المشاهدين، فقد اكتأب.. والغريب انه توجه إلى مركز الشرطة ولا شيء غيره ربما ليطلب العون أو يشكو ظلماً من حرموه من متعته اليومية.. وبالطبع حاول رجال الشرطة إخراجه من اكتئابه فاستدعوا له طبيباً بيطرياً ليعالجه من مشاكله النفسية.
كيف اختار مركز الشرطة دون غيره ولماذا؟.. هو وحده من يعرف الإجابة.. ولكن بالنسبة لى فإن ما حدث يؤكد مجدداً أننى كنت محقا فى إعجابى بهذا الحيوان العملاق الطيب.