أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء؛ ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن.
الحكاية عن بطل من أبناء سيناء هو الشيخ بلال سويلم، من مواليد الثانى والعشرين من شهر سبتمبر لعام 1947 بقرية المقضبة، التى وُلد بها ويعيش بها الآن، ونال البطل قدرًا من التعليم بمدينة العريش بمدرسة التعاون الإعدادية عام 1959، وهو من أبناء قبيلة الترابين، الذى فعل بتلقائية ذات العمل الذى قام به رجال قبيلته الذين قدموا أنفسهم طواعية فداء لترابهم المقدس «سيناء»، وعقب نكسة يونيه توجه مباشرة لنجدة إخوانه من رجال القوات المسلحة العائدين من جبهات القتال -دون اختبار- فكان يقود بعضهم إلى طرق النجاة من مفازة سيناء، وتارة أخرى يمحو آثار أقدامهم برعيه لأغنامه، وهو الفتى الذى أكمل الثلاثين من عمره، وهو لم يكن يملك من الرعى سوى الحرفة فحسب؛ فكان يذهب لأهله من أصحاب الأغنام ليتطوع برعيها دون مقابل حتى يتسنى له محو آثار أقدام رجال القوات المصرية، وظل الشاب يبحث له عن دور يشفى غليله كلما يرى هؤلاء الصهاينة يدنسون تراب أجداده، وبحذر بالغ يتصنت بين هؤلاء وهؤلاء ليلتمس خيطًا ولو بسيطًا عن هؤلاء المناضلين من أبناء قبيلته ضد الاحتلال الصهيوني، حتى أنه لم يمنعه فقره من الزواج؛ فكثير هم الشباب الفقراء الذين يساعدهم القادرون من رجالات القبيلة فى الزواج وبناء أسرة مستقلة، لكن البطل كان له رأى آخر ومغاير؛ حيث إنه رفض أن ينعم بأى مظاهر للحياة وسيناء حبيبته ما زالت أسيرة.
كان بلال سويلم أحد الشباب الشهود على مؤتمر الحسنة الذى أقامه الاحتلال الإسرائيلى فى مدينة الحسنة بوسط سيناء فى 31 أكتوبر عام 1968 عقب نكسة 67، عندما توهم الإسرائيليون بأنهم قاموا بتحريض أهالى سيناء على الاستقلال بها وإعلانها دولة مستقلة للقضاء على تبعيتها لمصر، وإثبات عدم أحقيتها فى استرداد سيناء مرة أخري، وحشدت إسرائيل فى سبيل ذلك طاقاتها كلها لتحقيق حلمها فى نزع سيناء من مصريتها وعروبتها، وسعيًا وراء الهدف التقى موشية ديان -وزير الدفاع فى إسرائيل آنذاك- عددًا من مشايخ سيناء، وأغدق عليهم الهدايا والأموال لإقناعهم بفكرة تحويلها إلى دولة مستقلة، وفى الوقت ذاته علمت السلطات المصرية بتفاصيل المخطط الإسرائيلى من خلال تنسيقاتها مع مشايخ سيناء الأبطال؛ فقامت بتكليف الضابط السيناوى محمد اليمانى بمتابعة القضية، حيث طلب من المشايخ -وفق تعليمات من القاهرة- مواصلة خداع ومجاراة إسرائيل فى طلبها، وقام برصد تحركات العدو الصهيونى واتصالاته الدولية، فى الوقت الذى وافقت فيه أمريكا وعدد من حلفائها على دعم القضية فى حالة موافقة أهل سيناء على التدويل فى مؤتمر عام يراه العالم كله، واجتمع ديان بالشيخ سالم الهرش وبعدد من كبار المشايخ معلنين موافقتهم على المقترح مبدئيًّا، إلا أنهم طالبوا بمهلة للحصول على إجماع شيوخ القبائل فى سيناء، وفى 31 أكتوبر عام 1968 أعدت إسرائيل عدتها لإعلان سيناء دولة منفصلة، وحشد ديان وزير الدفاع عدته،كما أن الطائرات كانت تنقل المؤن ومصورى وكالات الأنباء وعشرات القنوات العالمية، وكان كبار القيادات من إسرائيل يتوافدون جوًّا على مكان التجمع بمنطقة الحسنة من أجل اللحظة الحاسمة، وفى الوقت نفسه كانت المخابرات المصرية تتحرك للقضاء على المحاولة الإسرائيلية، وتم تفويض الشيخ سالم الهرش من قبيلة البياضية للحديث عنهم أمام الإسرائيليين، فقال: أترضون بما أقول؟ فقالوا: نعم. وبينما موشيه ينتظر لحظة التدويل قال الهرش: «… إن سيناء مصرية، وقطعة من مصر، ولا نرضى بديلًا عن مصر، وما أنتم إلا احتلال، ونرفض التدويل، وأمر سيناء فى يد مصر، سيناء مصرية مئة فى المئة، ولا نملك فيها شبرًا واحدًا يمكننا التفريط فيه».
وعقب المؤتمر قام الاحتلال الإسرائيلى باتخاذ إجراءات قمعية عنيفة ضد السكان، واعتقل 120 من المشايخ والمواطنين، وهنا كان البطل الشيخ بلال سويلم الذى كان فى عمر الحادى والعشرين ينظر إلى البطولة التى جسدها مشايخ قبائل سيناء، وتعلم منهم كيف يكون الفداء؟ وكيف تكون الشجاعة؟ ومنذ اليوم الأول بعد هزيمة 67 والبطل بلال يبحث عن دور له يقدم به نفسه أمام سيناء التى عشقها وحزن لما آل إليه حالها؛ فتطوع لمساعدة الجنود فى عودتهم عبر صحراء سيناء إلى قناة السويس، كما تقدم إلى أصحاب الأغنام لرعيها فى وديان وسط سيناء، وتلك كانت حجته فى تحقيق ما أراد، وهو محو آثار أقدام الجنود المصريين المنسحبين، كما كان يقدم لهم الطعام والشراب والمأوي، لحين توصيلهم إلى أمثاله من الشباب الوطنى من أبناء سيناء الذين يقومون بأدوار متتالية فى مساعدة الجنود.
لكن هذا لم يكن أمل الشاب البطل، فما زالت البطولة فى نظره بعيدة عن مثل تلك الأعمال، وهو الذى يأمل فى مقاومة قتالية مع وحدات العدو الصهيونى المحتل، فكان له ما أراد عندما وجد ضالته فى الانضمام للحرس الوطني، وظل يشارك معهم بالأعمال القتالية ضد العدو الصهيونى منذ 1967 وحتى أكتوبر 1968، وبعد ذلك أصبح من الفارين المطاردين من العدو الصهيوني، الذى طارد مشايخ وشباب القبائل الرافدين لتدويل قضية سيناء، ومنهم بطلنا بلال سويلم حتى أصبح عضوًا بمنظمة سيناء العربية، ومنذ ذلك الحين وهو يساعد القوات المصرية فى أمرين وهما: المقاومة والاستنزاف لقوات وقدرات العدو الإسرائيلي، والأمر الثانى هو تجميع المعلومات الدقيقة عن تجمعات العدو وتسليحه وتحركاته ما بين القسيمة والحسنة حتى المنطقة التى تسمى الآن بمنفذ العوجة.
كانت والدته تلح عليه بالزواج مثله كمثل أقرانه من شباب الترابين، إلا أنه كان يرفض ويقول لوالدته: لا يحق لى التمتع بأى شيء وحبيبتى سيناء ما زالت أسيرة.
وكانت والدته تشجعه على وطنيته التى وهب شبابه عبرها لسيناء حتى تنال حريتها، وكانت كثيرًا ما تمحو آثاره من منزلها هى وأختاه حتى لا يكتشف العدو الصهيونى وجوده.
وحتى تحقق نصر العاشر من رمضان السادس من أكتوبر وبلال سويلم قد وهب شبابه وجميع طاقاته لتحقيق الحرية التى كان يحلم بها لمعشوقته سيناء، قام خلالها بالكثير من العمليات السرية لصالح قواته المسلحة، حتى بعد انتهاء الحرب، وقد اكتشف العدو قيامه بأعمال عدائية ضد الصهاينة؛ فتمكنوا من القبض عليه واعتقاله دون محاكمة فى يناير 1974، وحكموا على البطل بـ 12 سنة، وكانت جريمته مقاومة الاحتلال، وتم سجنه فى معتقل عسقلان بالأراضى المحتلة، واشتد تعذيب العدو له لاستجوابه والحصول على معلومات بأسماء الشباب الفدائيين من أبناء قبائل سيناء، إلا أنه كان يحتمل آلام التعذيب رغم قسوتها، التى كان من بينها أن يضعوه فى حوض مياه قذرة وحوله الجثامين والهياكل البشرية، ويتركونه لساعات طويلة حتى يتملكه الرعب ويسهل الحصول على أى معلومات منه، لكنه الفتى الذى أصر على مقاومة الاحتلال، ورغم انتصار أكتوبر فإنه ما زال يقاوم الصهاينة للحصول على حلمه فى تحرير تراب سيناء كافة.
وبعد عدة سنوات اكتشف الصهاينة أن البطل بلال سويلم قد اعتاد التعذيب ولم يعد يسبب أى معاناة له، فقام الصهاينة بنقله لمعتقل بئر سبع حتى يعانى من أساليب تعذيب أخرى من ضباط صهاينة جدد، ومع ألوان التعذيب التى يحكى البطل عن معاناته معها مثل التعرض لساعات فى المياه المثلجة ثم إلى المياه الساخنة لدرجات تقترب من الغليان، فضلًا عن عدم السماح له بالنوم لأيام متتالية، ونظرًا لشدة إصرار البطل وفشل العدو فى الحصول على معلومات من البطل بلال سويلم؛ فقد صدر الحكم الثانى عليه بنقله لمعتقل غزة لتجديد صنوف التعذيب عليه، وهنا كان الحبس الانفرادى فى قبو مظلم تحت الأرض لا يرى الشمس سوى أقل من ربع ساعة أسبوعيًّا، كما أن مساحة القبو لا تزيد عن المتر والنصف فى المتر، مما أثَّر على قواه التى كادت أن تخور، إلا أن حلمه أن يرى معشوقته سيناء حرة بكامل أراضيها كان الباعث لصموده داخل هذا السجن الانفرادى شديد الضيق، إلى أن وضعوه فى حجرات أوسع بقليل مع عدد من الفدائيين ربما يتصنت الصهاينة على أحاديث المسجونين الأبطال ويتكشف الحديث عن بعض الأسرار التى استحال لهم الإفصاح عنها.
ظل البطل مع زملاء له من شباب القبائل فى معتقل غزة، وهم: حماد عيد بلال وجمعة سالم سلامة من قبيلة الترابين، ومبارك أبو صلاح وعبد الكريم أبو لافى ومحمد خالد صالح من قبيلة السواركة، وأحمد حجاب من العريش من عائلة أبو حجاب، وإبراهيم من البياضية، وعمدة المجاهدين حسن على خلف، وخرجوا من المعتقل المركزى بغزة على ثلاث دفعات عقب مبادرة السلام التى أطلقها الشهيد الرئيس أنور السادات فى 1977، وكانت بالدفعة الأولي: حسن على خلف وعدد من الأبطال كأمثال عز الدين جبريل وعبدالله بدوى عام 1977، والدفعة الثانية كان من ضمنها عبد الكريم أبو لافى ومعه مبارك أبو صلاح ومحمد خالد فى عام 1978، وكان البطل ضمن الدفعة الثالثة وكان معه جمعة سالم سلامة وأحمد حجاب فى عام 1979.
يقول البطل الشيخ بلال سويلم إنني: «لا أستطيع أن أنسى ضباط المخابرات الصهاينة بأسمائهم الحركية، وهم: أبو سيف وأبو زيد وأبو النمر، عندما كانوا يترددون علينا فى كل المعتقلات التى انتقلنا إليها وكانوا يتحدثون العربية بطلاقة، وأيضًا الضابط الإسرائيلى الفرنسى ديفيد سبير الذى كان الضابط المسئول «إجرائية – بالعبرية» عن سجن غزة المركزى الذى كان مقسمًا إلى ثلاثة أدوار «جيمن بالعبرية».
وبعد خروج البطل من المعتقل توجه إلى سيناء فالإسماعيلية؛ حيث تزوج فى فبراير 1982 وانتقل إلى قريته المقضبة مع زوجته السيدة سعاد منصور محمد من قبيلة السواركة، التى أنجب منها ثلاثة أبناء هم: محمد وأحمد ومحمود، وستة من البنات وهن: هدى وسماح ونسمة وولاء ووردة وسلمى وتمام.
وكرمته الدولة المصرية لجهوده الوطنية فى مقاومة الاحتلال الصهيونى بنوط الامتياز من الطبقة الأولى فى أبريل 1985.
ويقول البطل الشيخ بلال سويلم للأجيال الشابة من أبناء الوطن: «على كل شاب أن يسأل نفسه ما هو طعم الحياة إن لم يكن فيها تضحية وفداء لوطنه؟».