يدخل العام الجديد والعالم والمنطقة يشهدان متغيرات عديدة، بداية من الحرب التي اشتعلت في غزة وامتدت نيرانها إلى عواصم عدة، من بيروت إلى دمشق، وحرب أوكرانيا التي لا يريد من أشعلوها أن تنتهى، وصولا إلى عودة ترامب ليحكم البيت الأبيض مجددًا بفكره العنيف، واستمرار الحرب الأهلية في السودان والفوضى وعدم الاستقرار في ليبيا وأزمة البحر الأحمر وما تواجهه الصومال.
يقينًا المنطقة لن تكون هادئة في العام الجديد، وظني أن تداعيات ما حدث في 2024 ما زالت لم تكتمل، وهناك الكثير الذي يمكن أن نتوقع حدوثه في العام الجديد سواء دخول عواصم أخرى دوامة الصراع، أو مغادرة أنظمة وسقوط أيقونات، وربما بعض التغييرات في الخريطة الإقليمية بشكل عام.
فعلامات الاستقرار غير واضحة، لأن الغيوم هي المسيطرة، ورغم الحديث المتداول عن اليوم التالي في غزة، فاللافت أنه أصلا لا توجد قدرة على توقع اليوم التالي في المنطقة كلها، خاصة وأن الإجماع بين الخبراء على أن الإقليم الآن ليس كما كان قبل عام، ولن يكون الخريطة السياسية والعسكرية نفسها تغيرت، وبعض القوى ربما تحتاج لعشر سنوات حتى تستعيد قدراتها مرة أخري، ودول قد تستغرق استعادتها لعافيتها لعقود، وكل هذا بشرط توافر الإمكانات المادية الضخمة المطلوبة.
وسط هذا الإقليم الذي أصبح في أغلبه مستباحًا في أمنه القومي وحدوده ومصالحه، والاغتيالات التي تتم على الهواء مباشرة، والاقتحامات العلنية للأراضي دون أي اعتبار لسيادة، والتدخلات السافرة في شئون الدول، تبقى مصر هي الدولة المتماسكة، القادرة على التصدى وحماية أمنها ومصالحها الوطنية، وفرض خطوط حمراء تمنع الاقتراب من أرضها، رغم أن كل التقديرات تقول أن مصر هي الهدف الأول والأهم في المخطط الذي تتعرض له المنطقة، وأن العين أولًا وأخيرًا على سيناء لتهجير الفلسطينيين وتصفية القضية تمامًا، وكذلك على هدم المؤسسة العسكرية، إلا أن مصر استطاعت أن تنجو من هذا الفخ، ليس هربًا، وإنما بفضل الله ثم القوة التي امتلكتها طوال السنوات العشر الماضية عبر تدعيم وتطوير قدرات جيشها وتثبيت أركان الدولة وامتلاك عناصر القوة الشاملة، وقبل ذلك تماسك الشعب ومساندته لدولته وقيادته.
بالتأكيد هذا كله لم يحدث بين يوم وليلة ولا مصادفة، وإنما نتيجة جهد وتعب، ترجم إرادة سياسية حقيقية للقيادة السياسية هدفها بناء الدولة القوية التي تمتلك حماية نفسها، وهذا أحد أهم إنجازات الدولة المصرية خلال الفترة الماضية.
صنعت الدولة تغييرًا حقيقيًا في كافة المجالات، من الطرق إلى الإسكان والزراعة والصحة والتعليم والكهرباء، وأعادت البناء مجددًا، وكل قطاع يستحق أن تفرد له مساحات مطولة للحديث عما شهده من إنجازات كبيرة، لكن كل هذا كان يمكن أن يكون معرضًا للانهيار والهدم إذا لم تكن الدولة تمتلك القدرة على حمايته، في ظل استهداف واضح لها، فإذا كانت التنمية صعبة ومكلفة، فالأصعب هو حمايتها، وهذا يتم من خلال أمرين..
الأول: قناعة المواطن بهذه التنمية وحرصه عليها عبر إدراكه بأن كل بناء يتم من أجله ولتطوير مستوى معيشته، ولهذا يدافع عنه ويحميه، وهذا ما تحقق بالفعل واستطاعت القيادة السياسية صناعة ظهير شعبى قوى داعم لبناء الدولة ومدرك لمعنى الإصلاح والخطر الذي يتهدده، ولهذا وجدنا رفضًا شعبيًا تامًا لأي محاولات تخريب أو فتنة تمارسها جماعة الإخوان الإرهابية، أو ميليشياتها على السوشيال ميديا ووجدنا الشعب يساند قيادته في كل المواقف من أجل حماية الأمن القومي، واستقرار الدولة لانه مقتنع أنه أمام رئيس وطنى يريد أن ينقل مصر إلى مستوى تنموى مختلف ولكنه يتعرض لضغوط وحملات تشويه وحرب شرسة من أجل هدم ما يبنيه وكما قال الرئيس فهذا شغل أجهزة مخابرات بما يعنى أنه مخطط ومنظم وخطير ويتطلب يقظة وتصديًا شعبيًا قويًا.
والثانى: هو امتلاك جيش قوى رادع قادر على التصدى لأى محاولات للاقتراب من مصر وأمنها ومقدرات شعبها، وعلى مدى عشر سنوات كان أحد أهم الأهداف هو تطوير قدرات الجيش المصرى وتمكينه من أحدث الأسلحة، فكان التسليح المتنوع في المصدر والإمكانات، الميسترال وطائرات الرافال الفرنسية، والغواصات الألمانية والآياتشي والإف 16 الأمريكية، والطائرات الهليكوبتر الروسية، تسليح عصرى بحريًا وجويًا وارتقاء بمستوى الفرد المقاتل والجاهزية القتالية، مما جعل القوات المسلحة تحتل مكانة عالمية متقدمة، بما لديها من قدرات ردع وأقرب مثال لهذه القوة العسكرية التي تمتلكها مصر فرض ثوابتها وخطوطها الحمراء بكل حسم في قضية التهجير للفلسطينيين، ومن قبلها تطهير أرض سيناء من الإرهاب المدعوم خارجيًا.
حماية البناء كانت كلمة السر في أن تواصل الدولة خطواتها لإقامة مشروعات قومية عملاقة من سيناء ومطروح إلى حلايب وشلاتين وأسوان، ليست هناك منطقة بعرض خريطة مصر وطولها لم يصلها التعمير، حتى مع التحديات الاقليمية والعالمية الصعبة ومع الأزمات الاقتصادية الطاحنة ظلت مصر تبنى دون توقف، بل في سيناء نفسها يتواصل البناء والعمران، وكما انتهت المرحلة الأولى من مخطط تنمية سيناء بتكلفة تجاوزت الـ 650 مليار جنيه، فالمرحلة الثانية تتجاوز تكلفتها الـ 300 مليار، والرسالة أن سيناء للمصريين وسوف يتم تعميرها بأيدى المصريين على مدى عشر سنوات أنفقت مصر ما يزيد على 11 تريليون جنيه من أجل البناء، في بنية تحتية وتطوير قدرات الدولة والمشروعات القومية العملاقة، ولو لم يكن قد حدث هذا لكانت الدولة معرضة للانهيار.
في لقائه مع رؤساء تحرير الصحف والإعلاميين كان الرئيس عبد الفتاح السيسي واضحاً وهو يؤكد على أننا مررنا بالأصعب وعلينا أن نواصل الإصلاح والبناء لتحقيق التنمية المنشودة، هذا هو ما يريده الرئيس، أن تكتمل إستراتيجية التنمية حتى نحقق الهدف الذي تسعى إليه.
بالتأكيد الظروف صعبة، والتحديات المحيطة بنا خطيرة لكن لا بديل عن استكمال البناء من أجل التنمية المستدامة التى نحلم بها، وإذا كانت المنطقة تتعرض لمخططات غير مسبوقة لاعادة هندستها وتشكيلها من جديد وفق ما يخدم مصلحة القوى العالمية، فإن مصر كانت منتبهة لهذا المخطط مبكرًا فاستعدت له بكل السبل التي تعصمها من مخاطر هذا المخطط وتجعلها عصية على السقوط، وفي الوقت نفسه استطاعت مصر أن تعيد هندسة نفسها داخليًا بما يخدم خطة التنمية التي لم تترك قطاعًا ولا منطقة.
وربما يكون مشروع «حياة كريمة» عنوانًا كبيرًا لهذا العصر الذي نعيشه ليس فقط كمبادرة التنمية وتطوير الريف المصرى وتغيير مستوى حياة نحو 60 مليون مواطن يعيشون فيه، وإنما كشعار الدولة كلها التي تبحث عن الحياة الكريمة لكل مواطن فيجد غذاءه وعلاجه وتعليمه بما يليق، ويجد فرصة عمل تناسب قدراته، ودخلًا يغطى احتياجاته، في دولة تؤمنه وتحمى مصالحه وتدافع عنه وتوفر له الأمان.