استطاعت بورسعيد إجلاء عدوان ثلاث دول عظمى طغت بكل قواتها لاحتلال المدينة
بين صيف العام 1990 وهى المرة الأولى التى زرت فيها مدينة بورسعيد الباسلة و صيف العام المنصرم 2024 فى آخر زيارة، حكايات لا تنسي، و بين التاريخين أيضا شريط من الذكريات و المواقف و الشخوص و الأحداث و الأبنية ذات الطراز الفرنسى على شط القنال و أصوات السفن و مبنى الإرشاد والمعدية وبورفؤاد، كل الأماكن لها تاريخ ولها أيضا نفس طويل كأصحابها، أذكر ذات مرة أننى فتشت على جدران تلك الأبنية عما قاله الزعيم جمال عبد الناصر فى إحدى خطبه محدثا شعب بورسعيد ومادحا فى استبساله قائلا: «فاكرين كتبتم لهم إيه على الحيطان فى بورسعيد بالإنجليزي» ثم ضحك عبدالناصر بصوت عال وقال «فاكرين طبعا»، فتشت عما كتبوه، صحيح لم أجده على الجدران بفعل الزمن ولكنى وجدت من كتبه، حينها أدركت لماذا أنا لم أستغرب عندما غنت شادية على لسان إسماعيل الحبروك و بلحن محمد الموجى «أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد، لتبوس لى كل إيد حاربت فى بورسعيد»، و أدركت أن هذا فعل واجب ردا لجميل بورسعيد و أهلها.
هى نفسها المدينة التى حيرت العالم، لا وقت فيها إلا للدهشة و المتعة البصرية «الفرما» كما كانت تسمى قديما، بها مرت العائلة المقدسة وبها جزيرة تنيس الأثرية التى خرجت منها كسوة الكعبة وقتما كانت إحدى المدن التجارية والصناعية، وواحدة من أجمل مدن مصر منذ الفتح الإسلامى لمصر حتى العصر الأيوبي، إلا أن المدينة تعرضت لكثير من هجمات الغزاة الشرسة، فأمر الملك محمد بن العادل بن أيوب بهدم المدينة وتهجير أهلها عام 1246 وتحكى أطلال المدينة قصتها التاريخية. فلم تكن تلك المدينة حديثة العهد ولكنها قديمة الأثر.. و فى شوارعها و حواريها تلقى العدوان الثلاثى «علقة» ساخنة»، بعد مواجهات باسلة تصدرها أبناء بورسعيد فى مواجهة العدوان والموت، و فى الأخير وبعد ما يقرب من شهر ونصف لم يستطع العدوان الثلاثى الصمود أمام المقاومة الشعبية، واستطاعت بورسعيد إجلاء عدوان ثلاث دول عظمى طغت بكل قواتها لإحتلال المدينة لتكون معبرا لباقى محافظات مصر، ولكن بورسعيد أبت وقدمت أرواح أهلها فداءً دفاعاً عن الأرض والوطن، لتسطر أروع الملاحم البطولية فى تاريخ مصر بحروفٍ من نور.
كان العدوان على بورسعيد قد بدأ بعد إعلان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى 26 يوليو 1956، عن تأميم قناة السويس كشركة مساهمة مصرية، رداً على قرار البنك الدولى والولايات المتحدة وبريطانيا بسحب تمويلهم لبناء السد العالي، والذى علم به «عبدالناصر» يوم الخميس 19 يوليو 1956، وقررت حينها الحكومة البريطانية تجميد الأرصدة المالية لمصر فى بنوك إنجلترا بعد قرار تأميم قناة السويس، مما أثار مطامع بعض الدول، وشكلوا عدواناً ثلاثياً من «فرنسا، إنجلترا، وإسرائيل»، على محافظة بورسعيد بشكل خاص فى 5 نوفمبر 1956 باعتبارها مدخل القناة وبدأوا توجيه ضربات على مصر كلها فى 29 أكتوبر من نفس العام.
كانت الملاحم البطولية الخارقة التى سجلها أبطال بورسعيد خلال العمليات النوعية التى كانوا يقومون بها حفاظاً على أرضهم حديث الصحف الإنجليزية والفرنسية، فلم ينس الإنجليز و الفرنسيون أبدا كيف قامت مجموعة فدائية من أبناء بورسعيد يوم 9 ديسمبر 1956باختطاف مورهاوس ابن عمة ملكة انجلترا «الملكة إليزابيث»، و كيف تم إغتيال ضابط المخابرات الإنجليزى ويليامز الذى استعانت به انجلترا لمعرفته بطبيعة المصريين وكان طليق اللسان فى التحدث بالعربية، وقام بهذه العملية الفدائى السيد عسران، حينما وضع قنبلة داخل رغيف خبز وقام بنزع الفتيل خلال حديثه مع هذا الضابط فمات الأخير وسائقه، هذا بالإضافة إلى عمليات خطف السلاح من الدوريات الليلية للعدو، وحينها كانت تهرول الدوريات خوفاً من القضاء عليها.
تم جلاء قوات العدوان الثلاثى تدريجياً حتى غادر آخر جندى فى 23 ديسمبر عام 1956، ليصبح ذلك اليوم عيداً قومياً لبورسعيد، وسادت حالة من الفرحة والسرور بين أهالى المدينة الباسلة أطلقوا حينها الأفراح والبهجة والسرور فى كل أرجاء المحافظة، وخرجوا فى تظاهرات شعبية بشوارع أحياء العرب والمناخ والإفرنجى «الشرق حالياً».. كل سنة و بورسعيد باسلة مضيئة ومبهجة.