لا أحد يستطيع فى الوقت الحالى التنبؤ بمستقبل سوريا والسلطة الحاكمة فيها، ومَن مِن الأطراف الفاعلة على ساحتها الآن سيعتلى القمة من سيبقى مكانه أو يجرى استبعاده.
العالم كله مازال فى مرحلة الانتظار، وبعض منه تقدم خطوة إلى مرحلة جس النبض من خلال إجراء اتصالات مع المجموعة الجديدة المسيطرة، أو إرسال مبعوثين لإجراء لقاءات مباشرة مع قيادتها.
القيادة الجديدة تحاول أن تشرح نفسها للعالم من خلال تصريحات يومية مطمئنة، لكن لا أحد يمكنه أن يجزم بالفترة الزمنية المقررة لصلاحية هذه التصريحات.. هل هى تعبير عن توجه حقيقى للمستقبل، أم مجرد تطمينات لخلق فرصة لالتقاط الأنفاس قبل إظهار الوجه الحقيقي.
فى كل الأحوال، ولو اعتمدنا على القياس على ما جرى لدول عربية أخرى منذ عام 2011، ومنها سوريا نفسها بالإضافة إلى تونس وليبيا واليمن والعراق، فإن معنى ذلك أن ما يحدث فى سوريا الآن هو ما كان مخططا له أن يحدث فى 2011، وأنه «ملحق» له بعد أن تهيأت الظروف لتنفيذه.
هل معنى ذلك أن علينا، وعلى الشعب والدولة فى سوريا الانتظار سنوات أخرى من الصراعات الداخلية قبل أن تستقر على الصورة النهائية؟!َ
دولتان فقط من بين الدول التى وصفت بها أحداث 2011 أمكنها التعافى والوصول إلى صورة تحقق استقرارا نسبيا للسلطة والأمن، هما تونس والعراق، ودولتان مازالتا تصارعان للوصول إلى شاطئ أمان هما اليمن وليبيا.
لا أتحدث عن مصر، فهى حالة خاصة، ولا عن السودان فقد أخذت نصيبها من الأحداث بشطرها إلى دولتين.. شمال وجنوب، ثم دخل الشمال فى صراع عسكرى داخلى مؤخرا يكاد يقضى عليه.
مؤشران مهمان قد يساعدان فى استشراف رؤية مستقبل سوريا فى ظل قيادتها الجديدة.. من وجهة نظرى الخاصة وهما:
الأول ـ شخصي، ولكن له مغزي، وهو إسراع زعيم ما يسمى بهيئة تحرير الشام الذى يقود سوريا حاليا منذ اليوم الأول لدخوله دمشق إلى تغيير اسمه وكنيته، من «أبومحمد الجولاني» إلى أحمد الشرع.
هذا يشير إلى أنه «رجل أقنعة»، لديه قناع لكل دور يؤديه أو يكلف به، وأنه تخلص على الفور من الوصف الذى يشير إلى الانتماء للأرض وهو «الجولاني» نسبة إلى الجولان السورية المحتلة، وأياً ما كان الاسم البديل الذى اختاره وهو «الشرع» وما يعنيه به، فقد وصلت الرسالة وتحددت بوصلة التوجه الحالي، الذى يمكن أن ينقلب غدا إلى قناع ثالث.
الثانى عملى وتطبيقي.. فقد نلتمس العذر له فى التخلى عن صفة «الجولاني» حتى لا يستفز إسرائيل أو يشعرها مقدما أنه جاء، ليس فقط لتحرير سوريا من الأسد ونظامه، بل لتحرير ترابها الوطني، والجولان فى مقدمته.
لكن.. ماعذره فى الصمت على مئات الغارات الجوية التى شنتها إسرائيل، ومازالت، لتدمير كل مقومات الجيش السورى من أسلحة وعتاد وصناعات حربية وقواعد عسكرية، وإلغاء اتفاقية فض الاشتباك والتوغل بقواتها فى المنطقة العازلة.. إلى آخره؟!
بل أكثر من ذلك، لم يخف «الشرع» علمه المسبق بما ستقوم به إسرائيل، بل أعلن عزمه تسريح الجيش السوري، وأن الفصائل المسلحة التى يقودها من شركاء الهيئة هى التى ستقوم مقام الجيش، وبها مئات المجندين الأجانب من جنسيات مختلفة!! رغم أن الجيش لم يحم الأسد، ولا قاوم زحف الفصائل الغازية.
وهذا مربط الفرس.
فالجيش السوري، وكل مقومات تسليحه وقوته، ليس ملكا للأسد، ولا لأى نظام غيره.. إنه أصل من أصول «الدولة» السورية، التى هى أيضا أصل من أصول الوطن العربى وأمنه القومي.
وما يجرى الآن فى سوريا للجيش وتوابعه لا يصب، لا فى مصلحة الدولة والشعب فى سوريا، ولا فى مصلحة الأمن القومى العربي.
الطرف الوحيد المستفيد من القضاء على الجيش السورى وكل مقومات قوة الدولة السورية هو إسرائيل، ومخطط حكومتها بعد طوفان الأقصى فى القضاء على أى مصدر من مصادر العداء لإسرائيل أو تهديد أمنها.
صحيح أنه فى عهد الأسد، تحوًّلت سوريا منذ 2011 إلى ساحة مستباحة لكل القوى الخارجية، من دول وجماعات.. أمريكا تحت مظلة ما أسمته بالتحالف الدولي، وروسيا بدعوة من النظام، وتركيا بدعوى محاربة الخطر الكردى الذى يهدد حدودها المشتركة مع سوريا، وإيران بحكم الارتباط الشيعى مع الأقلية العلوية التى يمثلها الأسد، ثم تنظيمات وجماعات داعش والقاعدة وما شابه.
لكن، رغم ذلك، وعمليات الانتهاك المستمرة من جانب إسرائيل لسيادة سوريا بعمليات الاغتيال التى قامت بها على أرضها ضد قيادات الحرس الثورى الإيرانى وضرب خطوط إيران لإمداد حزب الله اللبنانى بالأسلحة عبر سوريا، فإنها لم تجرؤ على مدى ثلاثة عشر عاما ماضية على فعل ما فعلته خلال الأيام القليلة الماضية.
هدف المخطط الإسرائيلى من وراء ما يسميه بالشرق الأوسط الجديد هو أن تكون إسرائيل مؤمنة ضد أى تهديد تأمينا كاملاً ومستداماً، وألا تسمح لأى قوة إقليمية ـ أيا كانت ـ بالتفوق عليها أو الاقتراب منها، وألا يرتفع صوت للشعب الفلسطينى بالمقاومة للاحتلال، أو المطالبة بحقوقه المشروعة، ودون أن تأبه إسرائيل أو تحترم أى اتفاقات أو قرارات للشرعية الدولية، يمكن أن تعوق اجتياحها للمنطقة.
ولم يخف «الشرع» نواياه، فقد تحدث عن تدمير أسلحة الجيش السورى بنفس المفردات التى بررت بها إسرائيل غاراتها، وهى منع وقوع هذه الأسلحة فى أيدى جماعات أخرى معادية!!
إن ما تعرضت له دول وشعوب منطقتنا بأحداث ما سمى بالربيع العربي، كان مازال يمثل خصما من قدراتها ومستقبل شعوبها، وخصما من مقومات الأمن العربي، حتى أصبحت أكثر قضايا هذا الأمن مطروحة على العالم الخارجى أكثر مما هى مثار رد فعل عربى جماعى مؤثر يمنع استمرار انفراط العقد العربى دولة بعد أخري.
وهذه قصة أخري.