روجت ماكينات الدعاية العابرة للقارات لمضامين اعلامية تنطوى على أهداف المحتل تجاه الشعوب المفعول بها، وتسابق فى هذا السبيل القوى الاستنزافية «وهذا الاصطلاح من وجهة نظرى هو الأدق علميا و اجرائيا ولغويا لان المحتل لم يكن ليعمر الأرض بل يسرقها ويستنزفها» ومن أهداف المستنزف أن تظل له الغلبة والسيطرة دائما، ويبقى هو من يمسك بمقاليد الحضارة ومدنيتها عند الشعوب المفعول بها، وربما كان المثل الصارخ عند اعلان بريطانيا العظمى انتدابها على فلسطين ومن ثم تنظيم وادارة مجريات شئون الفلسطينيين كان الهم الأكبر عند الاحتلال هو احكام السيطرة على العقول القادمة، وتأتى لهم من خلال الغاء برامج ومناهج تعليم التاريخ وبعده الدين، ثم اللغة العربية لدى الدارسين بالمدارس الرسمية التابعة للاحتلال البريطاني، ولولا الدور المصرى فى هذا السياق وفى ارسال معلمين من مصر لفلسطين، لخرجت لنا أجيال فلسطينية لا تتحدث العربية ولا تعلم عن تاريخ أرضها سوى ما استهدفه الاحتلال. كذلك كان النموذج الفرنسى فى الاحتلال أكثر ضراوة فى مسخ الهوية الثقافية بل وطمسها، كما كان يستهدف ذلك جورج هاردى مسئول التعليم والثقافة فى المستعمرات الفرنسية وفى أثناء احتلال فرنسا للمغرب العربى «الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا» بدأ تدريجيا فى تقليص ساعات تعليم اللغة العربية، والدين، والتاريخ، فى مقابل زيادة ساعات تعليم اللغة الفرنسية، وشيئا فشيئا استنطق الاحتلال أجيالا كاملة بلغة المحتل الفرنسي، حتى أن مكافأة اتقان اللغة الفرنسية هى اكمال التعليم فى جامعات فرنسا بالشاطيء الشمالى للمتوسط. وطُبقت تلك النظرية على كافة الشعوب المحتلة فى افريقيا وامريكا الشمالية «كندا»، فكان الاحتلال الفرنسى أكثر دهاء إذ يستهدف العقول، لعلمه أن الاحتلال العسكرى مصيره إلى زوال، وهذا ما صرح به بالفعل جورج هاردي: «إن القوة تبنى الإمبراطوريات، ولكنها ليست هى التى تضمن لها الاستمرارَ والدوام، إن الرءوس تنحنى أمام المدافع، فى حين تظل القلوب تغذى نارَ الحقد والرغبة فى الانتقام، يجب إخضاعُ النفوس بعد أن تم إخضاعُ الأبدان» … بل انه زاد من الشعر بيتا ـ فاجرا!ـ إذ يقول: « … إن أكثر ما يجب أن نهتمَّ به هو أن نحرِصَ على ألَّا تصنع لنا المدارس الأهلية رجالًا صالحين لكل شيء، ولا يصلحون لشيء» وهنا نجد غيابا كاملا للضمير الانسانى فى تعامل المحتل مع الشعوب المفعول بها، وربما كان هذا هو المدخل لطرح قضية علمية وتاريخية تحمل حقيقة تاريخية علمية من جانب، وفرضية محتملة من جانب آخر.