اللغة العربية، إحدى أعرق اللغات وأعظمها، وأكثرها أصالةً، تسمو فوق كل لغة بما لها من ميزات، إنها لغة القرآن الكريم الذى نزل بلسان عربى مبين، واللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة، تحمل الكثير من المفردات والمحسنات، شهد لها الأعاجم بأنها «أغنى لغات العالم»، بحرٌ واسع، شطآنه ممتدة.
حملت اللغة حضارتنا العربية الإسلامية لتكون مصدر الاشعاع الذى أضاء الدنيا فى العصور الوسطي، ونقلت المعارف إلى جامعات أوروبا وأحدثت شرارة النهضة الثقافية والعلمية، واعترف بدورها التنويرى وأثرها فى تشكيل الحداثة الأوروبية وتطور الفكر البشري، كلُّ المنصفين من مؤرخى العلم والحضارة.
العربية من أغزر اللغات، حيث يحوى معجم لسان العرب لابن منظور أكثر من 80 ألف مادة، بينما الإنجليزية تحتوى على 42 ألف كلمة، هى لغة الإبداع والبلاغة ودرة الفصاحة، كانت لغة الآداب والفلسفة، تاج الفخر فى كل العلوم، التى علمت الدنيا، ينطق بها أكثر من 500 مليون نسمة فى الوطن العربي، والعديد من المناطق فى العالم، لها تأثير كبير على كثير من اللغات، وفى مقدمتها اللغات الأفريقية والأوروبية.
لكن اللغة العربية، مرت بمراحل كبوات، وتعرضت لهجمات، معظمها من صنع أيدينا، وتوارت حتى من لافتات المحال والمتاجر، وتراجع تدريسها فى المدارس والجامعات، واتجه الكثيرون إلى اللغات الأجنبية على حسابها، اعتبرها البعض لغة المتخلفين والعامة والدهماء، واستبدلوها بالكلمات الأجنبية التى يرونها دليل التقدم والرقي.
كما جذبنا الانبهار بكل ما يأتى من أهل الفرنجة، هرولنا وراءهم فى كل شيء، لا نفرق بين الغث والسمين ولا بين الضار والنافع، سحرتنا المفاهيم والمصطلحات البراقة، دون أن ندرسها أو نتدبرها، وألقى هذه كله بظلاله على حياتنا التى تغير منها الكثير، بعدما أخذنا عادات وتقاليد وتصرفات من دون تدبر، فقط لنبدو «متحضرين» فى عيون من حولنا، وما هو إلا تحضر زائف مبنى من رمال على شاطئ بحر هائج الأمواج لا يصمد ولا يقاوم.
ونعترف أن لغتنا العربية قد اعتراها الكثير من الهوان، وكان للدراما والسينما دور فى إظهار من يتحدث الفصحى كأنه معتوه أو متخلف، ومرت بمراحل «مرض»، وتعرضت لهجمات على أيدى الناطقين بها.
بجانب اهمال تدريس اللغة العربية، يأتى اهمال القراءة والاطلاع وتردى الاهتمام بالثقافة، كما اختفت اللغة «الراقية» فى الإعلام وأصبحت سطحية ركيكة ومفككة بعد انتهاء جيل الرواد من المتخصصين، ومع اهمال القراءة، يتم بالتبعية اهمال الكتابة وتراجعها.
تحتفل الأمم المتحدة باليوم العالمى للغة العربية فى 18 ديسمبر من كل عام، ذكرى اعتمادها بين لغات العمل فى المنظمة عام 1973، وقد دعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» الدول إلى انتهاج سياسة التعليم متعدد اللغات، ونصحت باعتماد اللغة الأم فى تعليم الأطفال خلال السنوات الأولى من دراستهم، وأكدت أن الأدلة تظهر أن التعلم باللغة الأم يحسن مهارات الأطفال الاجتماعية.. إننا نجد حول العالم أناساً يعتزون بلغاتهم ويتمسكون ولا يتكلمون إلا بها رغم أنهم يجيدون العديد من اللغات غيرها، ويصل التعنت ببعض هؤلاء أنهم إذا تكلم أحد معهم بغير لغتهم فإنهم يتجاهلونه تماماً، ولا يردون عليه، ليس إلا احتراماً للغاتهم.
إن اهتمامنا بلغتنا وتحيزنا المحمود لها، لا يعنى أن نترك تعلم اللغات الأخرى ولا تجاهلها، ولا الانقطاع عنها، لكن لتكن لغتنا فى مقدمة الاهتمام والدراسة، لأنها هى التى تحمل تراثنا وحضارتنا وعلومنا، وتعبر عن هويتنا، التى يريد لها الآخرون أن تكون «مسخاً» بلا معالم، بنوع آخر من الحروب التى تتعرض لها الأمة.
نحن نعتز بلغتنا وملزمون بأن نخرجها من «غربتها» ونرفض «هوانها»، ونعيد لها مكانتها ونعلى شأنها، فهى انعكاس لثقافتنا ومرآة تقدمنا، وحاملة مشعل مستقبلنا، والحفاظ عليها واجب قومي، يقع على عاتق الجميع، ليعود نهرها العذب إلى التدفق على ألسنتنا، وفى كتاباتنا.