تقف الحرب الروسية الأوكرانية، فى مطلع عامها الثالث، على مشارف تحول دراماتيكى محتمل، يهدد ـ إذا حدث ـ بتوسيع نطاقها جغرافياً، وتصعيد نوعى فى مستواها عسكرياً يمكن أن يقود إلى حرب عالمية ثالثة.
أوكرانيا تعيش منذ شهور، أزمة فشل هجومها المضاد التى قضت فى الإعداد له وقتاً طويلاً، وحصلت من حلفائها الغربيين، على ذمته، بمليارات الدولارات أسلحة ومعدات عسكرية، ومعونات اقتصادية لإنجاحه.
لا أوكرانيا نفسها، ولا حلفاؤها الغربيون، كانوا يطلبون أو يراهنون على نصر عسكرى حاسم يحققه هذا الهجوم على الجيش الروسي، يسمح بتحرير الأقاليم الأربعة التى سيطرت عليها روسيا فى الأراضى الأوكرانية، وضمتها إليها، وتمثل ما يقرب من عشرين بالمائة من إجمالى مساحة أوكرانيا.
كان الرهان فقط على أن ينجح الهجوم فى تحقيق اختراق ميدانى للوجود العسكرى الروسى بالقدر الذى يسمح لأوكرانيا بالاستجابة لمبادرات السلام الدولية المطروحة والخروج بتسوية مشرفة.
لكن، حتى هذا الرهان لم يتحقق من وراء هذا الهجوم.. لقد فشل فى زحزحة الوجود العسكرى الروسى عن مواقع سيطرته، بل وأتاح للدولة الروسية أن تحول هذا الوجود العسكرى فى هذه الأقاليم الأربعة إلى تنظيم إدارتها مدنياً، وتعزيز الخدمات المقدمة لسكانها، وربطهم بالدولة الروسية فى كل معاملاتهم بحيث يتحول ضم هذه الأقاليم إلى واقع عملى يحظى بموافقة السكان ورضاهم.
فشل الهجوم الأوكرانى المضاد، أدى إلى خلخلة فى القيادة العسكرية الأوكرانية، قابله على الجانب الآخر نجاح الرئيس الروسى بوتين فى إخماد فتنة تنظيم «فاجنر» العسكرى وتمرد قائده على قيادة الجيش الروسي.
فشل الهجوم الأوكرانى المضاد، أدى أيضاً إلى خيبة أمل فى دوائر عديدة بالتحالف الغربي، كانت قد بدأت تتململ من طول مدة الحرب، وتحمل مواطنيها بأعبائها حيث يدفعون من ضرائبهم ثمن الفشل الأوكرانى دون وضوح أفق لـ.. متى تنتهى أو كيف تنتهى هذه الحرب، ولذلك فتر حماسها لتقديم مزيد من الأموال.
هذا الفتور، مع وقوع عملية «طوفان الأقصي» وبدء إسرائيل الحرب ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، ساهما فى تحول اهتمام الولايات المتحدة وتحالفها الغربى عن أوكرانيا إلى الشرق الأوسط سواء على المستوى العسكرى أو السياسي، فتعثرت طلبات أوكرانيا من المساعدات العسكرية والاقتصادية بعد أن أصبحت إسرائيل تنافسها عليها.
هذا التحول أسعد روسيا.. وقد لاحظنا منذ بداية الحرب الإسرائيلية فى غزة، أن روسيا نأت بنفسها عن الانخراط فى أحداث الشرق الأوسط، مستريحة لتورط الولايات المتحدة المباشر فيها، بينما كانت تستعد لتحقيق اختراق جديد فى أوكرانيا يتوج به انتهاء العام الثانى من الحرب، وتستهل به العام الثالث، ويكون ورقة فى حملة الرئيس بوتين الانتخابية للفوز بفترة رئاسة جديدة.
وقد حدث، وحقق الجيش الروسى نصراً كبيراً بالاستيلاء على إحدى المدن الاستراتيجية فى أوكرانيا، مما أثار الرئيس الأوكراني، فبدأ جولات مكوكية لدى الحلفاء، صارخاً من أجل الحصول على «أسلحة بعيدة المدي» تمكنه من ضرب العمق الروسي، أو على الأقل، استعادة شبه جزيرة القرم التى استولت عليها روسيا منذ عشر سنوات، ومحذراً الغرب من أن الزحف الروسى قادم إلى دول شرق أوروبا إذا ما نجح فى أوكرانيا.
فى المقابل، كان التحالف الغربى قد نجح فى تذليل العقبات التى اعترضت ضم السويد وفنلندا لعضوية حلف الأطلنطي، ليصبح الحلف من خلالهما على أبواب روسيا مباشرة من خلال الحدود المشتركة، وهو ما كانت تخشاه روسيا منذ البداية وكان سبباً رئيسياً فى عمليتها العسكرية الخاصة فى أوكرانيا.
التحول الخطير الحالى يتمثل فى هاتين النقطتين.. الأسلحة بعيدة المدى التى تطلبها أوكرانيا لضرب العمق الروسي، وهى إذا استجاب لها الغرب ـ تمثل بالنسبة لروسيا تجاوزاً لخط أحمر من خطوط أمنها القومي.. ثم الوجود المباشر لحلف الأطلنطى على الحدود الروسية بعد ضم فنلندا والسويد لعضويته.
روسيا تعتبر الخطوتين بمثابة انخراط مباشر لحلف الأطلنطى فى الحرب ضدها يستتبع الرد، وقد لوح الرئيس بوتين فى آخر خطاباته هذا الأسبوع بأن الغرب يعرف أن لدى روسيا أسلحة بعيدة المدى أيضاً تستطيع الوصول إلى العمق الأوروبي، كما أضاف تصريحاً بأن القوة النووية الاستراتيجية لروسيا جاهزة، وهو تصريح ـ رغم تكراره فى مناسبات سابقة، فإنه يرتبط هذه المرة بتطورات نوعية جديدة.
ثم فجرت روسيا أحدث مفاجآتها، وهى الحصول على تسريب لمحادثة هاتفية بين قيادات السلاح الجوى لألمانيا تدور حول خطط قيل إنها تتعلق بتزويد أوكرانيا بأسلحة ألمانية جديدة، وطلبت روسيا تفسيراً لها، وهو ما أحدث حرجاً للحكومة الألمانية التى اعترفت بالتسريب وأطلقت تحقيقاً داخلياً حوله لمعرفة كيف تسربت المكالمة الهاتفية، وهل عن طريق اختراق روسى لشبكات اتصالات الجيش الألماني، أم بطرق أخري.
الوضع العسكرى الميدانى على الأراضى الأوكرانية الآن لصالح روسيا.. نجاح الغرب فى ضم فنلندا والسويد لحلف الأطلنطى يجعل الوضع الجيوسياسى لصالح الغرب.. الأسلحة بعيدة المدى لدى الطرفين لو دخلت الحرب فستصبح حرباً شاملة.. أزمة المكالمة الهاتفية المسربة يمكن أن تدفع الغرب لمراجعة موقفه من إمداد أوكرانيا بهذه الأسلحة والانشغال ولو مؤقتاً بمراجعة شبكات اتصالاته العسكرية وتحصينها، أو اختراق شبكات الاتصالات الروسية.. كل الاحتمالات واردة.
ويبدو أن الحرب فى أوكرانيا ستمتد عاماً جديداً.. فوسط هذا التصعيد، لا توجد مبادرة سلام واقعية مطروحة حتى الآن، ولا صفقة لإنهاء الحرب.. حتى لو نجح ترامب الذى يردد منذ بداية الحرب أن لديه عصا سحرية يستطيع بها ـ لو عاد للبيت الأبيض ـ أن يوقف هذه الحرب خلال أربع وعشرين ساعة.
أما فى غزة، فمازال رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو، مصراً على الاستمرار فى حربه الهمجية ضد الشعب الفلسطينى حتى النهاية.. نهاية غزة، ونهاية حركة حماس.. ونهاية القضية الفلسطينية وحلم الدولة الفلسطينية المستقلة.. هذه هى أهدافه المعلنة، وحلمه الذى لا يريد أن يتخلى عنه، ولا يستطيع فى نفس الوقت الوصول إليه.
ولذلك هو يهدد كل يوم باجتياح رفح، ويدفع بفلسطينى الشمال إلى الجنوب، ويحاصرهم فيه، لأنه يعرف أن هذه ورقته الرابحة الوحيدة والأخيرة للضغط على دول الجوار، عسكرياً وسياسياً وإنسانياً، فيضغطون بدورهم على حركة حماس لتقديم أكبر قدر من التنازلات تسمح له بأن يقول إنه حقق نصراً عليها.
إن أى اجتياح عسكرى برى لرفح سيحولها إلى مقبرة للجيش الإسرائيلى قبل أن تكون مقبرة لحماس أو للمدنيين الأبرياء.. وستطيح بالسلم والاستقرار الإقليمي، وستعرض مصالح الولايات المتحدة فى المنطقة لمخاطر مباشرة لا حدود لها، ليس من جانب فصائل المقاومة المختلفة فى فلسطين أو لبنان أو اليمن، بل من جانب الشعوب العربية والإسلامية التى لن تقبل بأى حال بنكبة جديدة، قد تخرج عن السيطرة وهو ما تخشاه الولايات المتحدة، ولذلك تحاول التراجع تدريجياً عن مواقفها المؤيدة لاستمرار الحرب.