تعودت ألا أصدق شاعرًا ما لم أره حقيقة في قصائده، وقليلا جدا ما يحدث ذلك قرأت وعرفت شعراء رائعين وماهرين في حياكة القصائد ورص القوافي وتركيب الصور، لكنهم عكس ما يكتبون، يتغنون بالجمال وينفثون من صدورهم وعيونهم القبح هؤلاء نسأل الله أن يباعد بيننا وبين إبداعاتهم..
وسامحوني إن كنت قد بدأت سطوري بذكر هؤلاء، بل ربما كان ضروريا أن نشير إليهم ونعرف الفرق بينهم وبين آخرين يصبون قصائدهم من ماء أرواحهم وتراهم على حقيقتهم في سطورهم يتماهون مع ما يكتبون مع الاعتذار لمن يؤمن ويردد مقولة” أجمل الشعر أكذبه” فأنا أحب الصادقين، ومن هذا المدخل يمكنك أن تقرأ كل أعمال الشاعرة شيخة المطيري، لاسيما ديوانها الشفيف” فاصلة، نقطتان..” بدءا من عنوانه الرشيق الذي يخطفك كقارئ ويورطك في متعة التأويل، ذلك العنوان الذي اتخذ من علامتي من علامات الترقيم واجهة لتجربة شعرية لم تزد مساحتها على 60 صفحة فقط، مساحة قليلة حقا بيد أنها ذات أثر عميق!
وبشكل عام وكما هو معروف تزيد علامات الترقيم النص المكتوب وضوحا ودقة وتذهب بالقارئ إلى المعنى من أقرب طريق وهو ما يتسق كثيرا مع شاعرة تتسم قصائدها بالصدق والوضوح، تشير الفاصلة إلى التتابع والارتباط وربما توحى بأن منادى ما يقف هناك تستدعيه شيخة المطيري لتقول له شيئا ورغم ذلك فهناك أشياء ستخفيها ولن تقول كل شيء وهنا تتحدث نيابة عنها النقطتان التي تصنع مسافة ما تكتنز داخلها ما لم تقله الشاعرة.
قصائد الديوان بشكل عام تكشف عن روح شاعرة دخلت ملكوت الشعر من أقرب الأبواب بلا ضجة ولا افتعال، أسيرة شجنها الطاغي وألمها الإنساني وغربة تقضم حواف الروح فتقول: في أولى قصائدها “غريبان في لوحة الأضداد:
- “أنا الغريب الذي ترعى جمال دمي / بواديين أيا موءودة الكبد
إني هناك منذ شتتوا حلمي/ فالجسم في بلد والروح في بلد”.
وليس مصادفة أن تقول في القصيدة الثانية مباشرة “على سفر”
” يسافر بي حزن ويرجع بي حزن/ مطارات عمري لم تعد بعده تحذو
جلست على غيم السماء وحيدة / أنوء بأمطاري وأصرخ يا مزن”
وهكذا تنغمس من السطور والصفحات الأولى في حالة من الشجن والحنين والشعور بالغربة أو الاغتراب فكأنك ترى روحا تبحث عن روحها! وربما ترسخ قصيدتها ” غرباء” ذلك الشعور باغتراب الذات وبحثها الدائم عن حقيقة ما ويقين تركن إليه الروح وفيها تقول:
- غرباء، إنا ها هنا أغراب / ويد الزمان محابر وكتاب
نزلت بأرض الغائبين قصائدي / عطشى وأرض الغائبين يباب
حتى قولها.. مر السراب على السراب وهل لنا / إلا السراب مطية وركاب
ضم الديوان تجارب متنوعة من حيث الشكل الشعري فإلى جانب القصائد العمودية بتفعيلاتها الناعمة قدمت لنا الشاعرة ألوان أخرى كما في قصيدتها” غيمة السياب”.
فيما اتكأت المطيري على تقنية التناص أكثر من مرة وبدا ارتباطها الوثيق بموروث الشعر العربي بجميع أزمنته وتحاورت نصوص ديوانها مع نصوص شعراء كبار محفورة في الذاكرة لكنه ليس ذلك التحاور التسجيلي الذي يكتفي باستدعاء القديم على سبيل الوجاهة الشعرية أو الاستفادة من الحضور الطاغ للنص القديم وإنما هو تفاعل حي مع النص الموروث ، وتعانق حقيقي بحثا عن تأويل جديد عبر معطيات عصرية وأجواء راهنة تعيشها الشاعرة وتخصها وحدها، ونبدأ من قصيدتها ” درويش” المهداة إلى قرية البروة في الجليل وإلى محمود درويش و رفاقه وعالمه و قهوته وزيتونته وحنينه إلى خبز أمه وأثره الباقي فتقول شيخة:
“إننى خبز في صباحات أمي/ إننى البن لو تعرفين حنيني
فازرعي حقلى اليتيم غناء/ وضعى شالها بوسط جبيني
كوريني كأننى محض ظن/ وانثريني في ساحة من يقين”
وفي هذا النص ورغم حضور درويش الطاغي باعتبار أن النص بالإساس مهدى له ورغم استدعاء عالمه وقاموسه فإننا نلمح حضور الشاعرة برؤيتها الخاصة وعالمها وتفسيرها للسعادة والغناء والرفاق والوطن وللخبز والأمومة عبر محاورة تضيف جديدا لنص الرجل وليس فقط تستدعيه للنحيب بجواره.
وفي قصيدة أخرى بعنوان” بأي حال عدت” تتناص شيخة مجددا مع المتنبي في أبياته الشهيرة” عيد، بأية حال عدت يا عيد / بما مضى أم بأمر فيك تجديد” وتضخ تجربتها الخاصة مع الذكري عبر البحر والقافية نفسيهما ومن خلال حوار بديع مع النص القديم بما له في النفس والوجدان من حضور وتأثير فيما يشبه المعارضة تطرح من خلالها مطيري حالتها الخاصة مع الذكري.
ولعل أهم ما يلفت النظر في “فاصلة، نقطتان..” هو ذلك الحس الإنساني الذي يهيمن على التجارب المختلفة التي تطرحها القصائد والهم الذي يغلفها والشواغل التي بدت واضحة في مرايا الصور الشعرية والمعاني وحتى في طبيعة المعجم التي استعارت منه الشاعرة مفرداتها وانتساب التجربة للذات وشواغلها الخاصة وهمومها الإنسانية حتى في لحظات تماسها مع العام والمجموع.