بعد أيام قليلة يهل علينا شهر رمضان بنفحاته وروحانياته، علينا من الآن وقبل مجيئه أن يختلى كل منا بنفسه لحظات ويسأل نفسه ما هو شهر رمضان؟ ما هى حكمة الصيام وفلسفة الحرمان الاختياري؟ ما هى الفكرة الكبرى التى من اجلها شُرع الصيام؟ هل من أجل الأكل والشرب والعزومات والخروجات والمسلسلات والخيام؟ لابد وان نراجع أنفسنا فيما فعلناه ونفعله فيما سبق فى كل رمضان، فهو فى الأساس شهر للعبادة والتقرب إلى الله تعالي.. شهر للتطهر من الذنوب والخطايا، ففيه تهب رياح الخير حيث تتحول مصر فيه إلى ما يشبه «دار مناسبات كبيرة» أو «جمعية خيرية ضخمة» آلاف مؤلفة من موائد الرحمن تنتشر بطول البلاد وعرضها تطعم الفقراء والمحتاجين وعابرى السبيل.. آلاف مؤلفة من المساجد تستقبل المصلين لأداء صلاة التراويح والتهجد، حيث ترتفع أصوات الداعين وتكثر الصدقات والزكوات، هذه هى الصورة العامة لشكل المجتمع المصرى فى شهر رمضان، فإذا تخطينا تلك القشرة ووصلنا إلى اللب وإلى الجوهر وجدنا العديد من المتناقضات بين سلوك العبادات وسلوك المعاملات.
فشهر رمضان شهر له طبيعة خاصة بالنسبة للمصريين لكن استعداداتنا لاستقباله وضيافته أخذت أشكالاً وأبعاداً جديدة لا علاقة لها بالدين والتدين بصفة قطعية، فالمفترض أن شهر رمضان شهر الصيام، حيث علينا الامتناع عن الطعام والشراب وغيرها من المحرمات، وهذا يدعونا إلى التقشف والبساطة، لكن واقع الحال مغاير تماماً، فلا حديث إلا عن الطعام والشراب والولائم، يستهلك الصائم وقته فى الحديث عما أكل بالأمس وعما سيأكل اليوم ويبدأ فى التخطيط لما سيأكله فى الغد! ويتخلل ذلك بالطبع أحاديث المسلسلات والأفلام والبرامج والفوازير والمسابقات ونتائج تلك المنافسات الحامية بين القنوات الفضائية، وبالطبع لن ينسى الصائم قراءة نذر يسير من القرآن الكريم مع الاستماع إلى درس من دروس الشيخ الشعراوى قبل انطلاق مدفع الإفطار، يبدو لى أن يوميات الصائم تمر بين أحاديث الطعام والشراب وأحاديث الأفلام والمسلسلات ولا يبقى للعبادات إلا وقت قصير تؤدى فيه الصلوات بطريقة روتينية.
إننا نعيش حزمة من المتناقضات المثيرة.. فالصيام الحقيقى نبتة ثمرتها التقوى والتقوى محلها القلب الذى يوجه سلوك الفرد فى معاملاته مع الآخرين، والواقع أن الصيام الحديث نبتة ثمرتها غريبة ومجهولة وغير معلومة، فالناس تصوم ولا أثر لصيامهم والناس تدعو ولا أثر لدعائهم! والحقيقة أن الناس مشغولون ومنغمسون فى أمور لا علاقة لها لا بالدين ولا بالدنيا! هم مشغولون بتوافه الأمور على منصات التواصل الاجتماعى ومحتويات المائدة! ويذهبون إلى المساجد للصلاة والدعاء فيدعون الله أن ينصرهم على أعدائهم ويدعونه سبحانه وتعالى أن يرزقهم بغير حساب ويدخلهم الجنة بغير حساب كذلك، لكن هيهات.. هيهات أن يستجاب لهم فالله لم يخلقنا لنهيم فى الأرض للطعام والشراب واللهو بل خلقنا لنعمر الأرض بالعلم والعمل بالإخلاص والإيمان، إننى أتعجب وتتملكنى الدهشة حينما أتابع هذا الكم من التحديات والأزمات الداخلية والإقليمية والدولية التى أنهكتنا ولا أجد أثراً لذلك لدى المواطن، فقط يهتم بالطعام والشراب والأفلام والمسلسلات، إننى أتابع هذا الكم من الإعلانات المستفزة التى تزف لنا بشرى هذا الكم من الخيام الرمضانية، وكأن شهر رمضان قد جُعل للسهر واللهو، ما هذا التناقض المريب، شهر للعبادة والسمو والتقوى يتحول إلى شهر للتبذير وضياع الوقت أمام التليفزيونات، إننى أدعو الجميع إلى إعادة النظر فى أولوياتنا وثقافاتنا الرمضانية، أمامنا مسئولية تجديد وتشكيل ثقافات وعادات ووجدان المجتمع، إن الصورة الحقيقية لشهر رمضان تلاشت تماماً ولم يعد يبقى منها إلا مجموعة من الشكليات والبدع والخزعبلات، فمتى نفيق ونصحو من غفوتنا ونحول هذا الشهر إلى موسم للعمل والإبداع والإنتاج والانتصارات، لكن كيف نستطيع تحقيق الانتصارات قبل أن نحقق النصر على أنفسنا أولاً؟
بيد أن الانتصار على النفس يبدأ بلحظات من التأمل يختلى فيها الفرد بنفسه محاسباً ومعاتباً وعازماً ومصلحاً ثم تحدث الانطلاقة نحو المعركة الكبرى للانتصار على النفس.