على القد«.. شعار نراه مكتوباً على جنبات بعض محطات مترو الأنفاق وبعض الأماكن والشاشات عنواناً لحملة تدعو إلى ترشيد المياه أطلقتها مؤسسة مصر الخير ووزارة الري.. والحقيقة الناصعة أن تطبيق هذا الشعار بات ضرورة لا مفر منها أمام ما تواجهه مصر من تحديات دولية وإقليمية وداخلية تستوجب تكاتف المجتمع ـ كل المجتمع ـ بكل هيئاته ومؤسساته.. دون استثناء ـ نحو ترشيد كل أوجه الاستهلاك فيه.. فإن الترشيد هو البوابة الحقيقية لبناء مصر التى نريدها.. وهو بحق القاطرة التى تنطلق بنا نحو تحقيق غاياتنا الوطنية نحو المزيد من التنمية والبناء والإعمار والتصدير وتوطين الصناعات الإستراتيجية وصناعة الخامات الدوائية وغزو الأسواق العالمية بالمنتجات المصرية والحفاظ على »عملتنا الوطنية« ومواردنا من »العملات الأجنبية«.
.. الترشيد ـ على إطلاقه ـ لم يعد »ترفاً« ندعو إليه.. بل صار واجباً وطنياً حتمياً إذا ما أردنا لمصرنا العظيمة أن تأخذ مكانها الذى تستحقه »تحت الشمس«.
.. وإذا كانت حملة »على القد« قد أطلقها الوزير هانى سويلم وزير الرى ووقع عليها مع الدكتور على جمعة رئيس مجلس أمناء مصر الخير والدكتور محمد الرفاعى تستهدف الحفاظ على كل نقطة ماء »فالماء أصل وأساس الحياة« فإن تكاتف الشعب والحكومة معاً لترجمة هذه الحملة ـ بمعناها الشامل ومفهومها الذى يجب أن يشمل كل مناحى حياتنا فإنه الطريق الأمثل لقهر كل التحديات وتحقيق كل ما نصبو إليه.
.. فى مناسبات كثيرة.. وجه الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى ترشيد الاستهلاك وترشيد الإنفاق العام.. وكلف الحكومة أكثر من مرة.. باتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من الإنفاق وخفض المديونية الحكومية وضمان الانضباط المالى بما يعزز قدرة الاقتصاد المصرى على الصمود فى وجه التحديات المختلفة ويهيئ البيئة المناسبة لانطلاقة مصر فى تحسين الخدمات للمواطنين والارتقاء بجودة حياتهم فى الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية.. وهذه كلها أهداف لن تتحقق إلا بتكاتف الشعب والتزام الحكومة بالتنفيذ.
.. وفى إحدى المرات طالب الرئيس السيسى الحكومة بترشيد الإنفاق من الوقود بنسبة 05 فى المائة »أى إلى النصف«.. وترشيد الإنفاق العام بجهات الموازنة العامة للدولة والهيئات العامة الاقتصادية.. وصدرت القرارات التى تلزم الجهات الحكومية بعدم صرف أى »مكون أجنبي« إلا بعد التنسيق مع البنك المركزى وترشيد كافة أعمال السفر للخارج إلا للضرورة القصوى وموافقة رئيس الوزراء وحظر صرف الجهات الحكومية على الحفلات والاستقبالات وبدل الانتقال للسفر للخارج ونفقات إقامة المعارض والمؤتمرات.. من هنا.. فإن الدعوة لترشيد الاستهلاك ليس المقصود بها المواطن وحده.. وإنما كل المجتمع بكل مؤسساته وهيئاته.. والحكومة فى المقدمة بوزاراتها ودواوينها بالمحافظات والمراكز والمدن والقري.. فالترشيد هنا لا يعنى مطلقاً مبدأ »المنع«.. أو تقتيره وتقييده وإنما إعادة توزيع الأولويات فى استخدام الموارد والسلع والخدمات فى غير إسراف أو تقتير.
.. والحقيقة إن المجتمع ـ كل المجتمع ـ بحاجة ماسة إلى »تغيير ثقافة الاستهلاك وأنماطه«.. فإن الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعى بما تقدمه من دعايات مضللة فإنها نقلت المواطن من مجرد إشباع حاجاته الأساسية إلى تمويل الاستهلاك كهدف فى ذاته »لزوم الحياة العصرية«.. بما يضاعف حدة الاستهلاك فيهلك إمكانات الفرد والأسرة.. والمجتمع على حد سواء.
.. فإذا أضفنا بعداً حقيقياً آخر وهو الزيادة السكانية الرهيبة والتى أكد الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى تقرير له صدر فى الثانى من نوفمبر الماضى فإن مصر تستقبل مولوداً جديداً كل 61 ثانية كل »ست عشرة ثانية«.. وأن إجمالى سكان مصر بالداخل قد وصل إلى »701« ملايين نسمة »مائة وسبعة ملايين نسمة« وأن مصر زادت مليون »فم« جديد خلال 862 يوماً فقط.. فإذا أضفنا لكل هؤلاء حوالى 01 ملايين لاجئ يعيشون على أرض مصر يأكلون مما نأكل ويلبسون مما نلبس ويرتادون مواصلاتنا وكل مناحى حياتنا فأى اقتصاد هذا يمكنه أن يتحمل كل هذه الأعباء؟! إذا لم نراع حدود »ما نحتاجه« لا ما نتفاخر به من أوجه استهلاك ترفيه أو عبثية لا طائل من ورائها إلا »حرق« المليارات من العملة الأجنبية.. وإضعاف حقيقى للعملة الوطنية.. والتأثير السلبى على المواطن محدود الدخل.. وعلى كل جهود التنمية فى سائر أوصال الوطن.
إن تنفيذ الحكومة بوزرائها ومحافظيها ونوابهم ومساعديهم لتوجيهات الرئيس بعدم الإسراف وترشيد الإنفاق والاستهلاك حتما سوف يؤدى إلى بناء »القدوة« و»النموذج« فيصبح المواطن أكثر اقتناعا بالابتعاد تماماً عن »الفشخرة« والاستهلاك التفاخرى أو الاستفزازي.. فيعم الخير المجتمع كله.
من هنا فإن توجيهات الرئيس وقرارات رئيس الوزراء لابد أن يرافقها إلزام للوزراء والمحافظين وتابعيهم حتى لا يصر بعضهم فى غيبة الرقابة الحقيقية على تجديد وتزيين وتجميل مكاتبهم بالأثاث الفاخر الجديد.. أو شراء السيارات الجديدة الفارهة.. أو الإفراط فى تبديل أجهزة مكاتبهم ودواوينهم من أجهزة الكمبيوتر.. فضلا عن أعمدة الكهرباء التى يبقى بعضها مضاءً حتى الظهيرة.. إن تغيير ثقافة المجتمع نحو الترشيد ليس فقط ضرورة اقتصادية.. تنموية.. للارتقاء بحاضر الأمة.. والنهوض بمستقبل أبنائها.. وإنما تستند أيضا إلى بواعث دينية حقيقية للشرع الحنيف أوردها القرآن الكريم فى الكثير من السور.. وتناولتها الأحاديث النبوية الشريفة فى مواضع كثيرة.
إن الله تعالى يأمرنا فى الآية 31 من سورة الأعراف »وكلوا واشربوا ولا تسرفوا«.
والآية 29 من سورة الإسراء »ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً«.
وقال عز من قائل فى الآية 67 من سورة الفرقان »والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً« فلا يسرف فى مأكله أو مشربه أو ملبسه أو أى من جنبات حياته.. وأوصى الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه »ما أحسن القصد فى الغني« القصد هنا بمعنى الاقتصاد وهو فى الفقه المتوسط بين طرفى الإفراط والتفريط.. فإن من أنفق قانعاً فى غير إسراف أو تقتير فإن الله يبارك فيما لديه فلا يفتقر.. وبالقصد »الاقتصاد« يطيب عيش العبد والمواطن أى مواطن فلا يسرف ولا يقتر.. ويتخذ بين ذلك سبيلاً.
.. وبعد.. فإن تغيير ثقافة الاستهلاك الحكومى والمجتمعى نحو الترشيد سوف تقود حتما إلى المزيد من »عزة مصر وشعبها« إنها دعوة أعظم وأشمل وأكبر من أن يسطرها »شعار« فوق حائط.. إنها »فريضة واجبة«.. فرض واجب.. فلا متسع مطلقا للاستهلاك الترفى أو التفاخرى أو الاستفزازى فإن مصر الدولة »فى حاجة لكل مليم وسنت« حتى توفر لأبنائها الحياة الكريمة التى ننشدها.. ولن يتحقق ذلك أبداً إلا بأن يكون كل منا فى موقعه داعية للترشيد فى المسجد والكنيسة.. فى مراكز الشباب وفى الأندية.. فى الفنادق والمنتجعات من مستوياتها الأدنى وحتى أعلى المستويات.. فى قصور الثقافة.. وبيوت الثقافة..فى المدارس والجامعات.. فى مراكز الإعلام الداخلي.. وحتى الآباء والأمهات والأسر..فإنه لم يعد أمامنا إلا طريق الترشيد طريقا لبناء وطننا والمستقبل الأفضل لأجيالنا القادمة.