فى بداية حرب إسرائيل على غزة كان الشهداء من المدنيين قد بلغوا عشرة آلاف، قلت لصديق من رجال الأعمال ونحن فى لقاء عام ما رأيك فيما حدث قال: لن يعجبك رأيى ؟ فقلت ولم..؟ إنه رأيك وقناعتك، قال لي: إننا فى دراسة إدارة الأعمال يدرسون لنا كتاب «فن الحرب» لأن عمل الاقتصادى به الكثير من الفكر الحربى فنتعلم من ذلك كيفية الدخول إلى الصفقات وحساب كل الاحتمالات وتوقعات ما يمكن أن يقوم به المتنافسون وردود أفعالهم بالنسبة لتطورات الصفقة أو الفعل الاقتصادى، وكيفية التراجع والخروج من المعركة الاقتصادية ، وعلى ذلك فما دمنا كنا نعلم أن رد إسرائيل سوف يكون عنيفًا وأمريكا والغرب سيقفون فى ظهرها ولن يستطيع العرب مواجهة كل هذا وذلك كله من خلال تجارب سابقة معروفة للجميع فلم يكن من الحكمة الدخول فى هذه الحرب.
الحقيقة أن ما قاله الصديق يصدق فعلاً بالنسبة للأعمال التجارية والإنتاجية التى تحسب الأمر من خلال المكسب والخسارة المالية وقد يصدق على المعارك العسكرية فى حالة تنافس قوتين عسكريتين على مغانم معينة ولاتعنى لأيهما سوى المجد والتفوق العسكرى والسيطرة على مناطق ذات مكانة اقتصادية أو إستراتيجية وغير ذلك مما تهتم به القوى الكبرى فى العالم.
أما تحرير الأوطان فالأمر مختلف تماماً لا يحسب من خلال المكسب والخسارة بل حتى لو حسب بحساب المكسب والخسارة فإن الميزان يختلف فى معنى النصر بالنسبة للمعتدى الغاشم وبالنسبة المعتدى عليه المحتلة أرضه المنتهكة حرماته، كما لا يحسب بعدد الضحايا أيهم أكثر على الجانبين.
فإذا عدنا للتاريخ وإلى بوصلتنا التى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فقد واجه الرسول «صلى الله عليه وسلم»، أعداءه بـ 300 مقاتل لا يملكون إلا السيوف وقليلاً من الخيل أما أعداؤة فقد كانوا فوق الألف بكامل أسلحتهم وعتادهم فلو كان الأمر يتعلق بحسابات القوى لما أقدم الرسول على المواجهة، أما لأنه صاحب حق ومعتدى عليه وأخرجه أعداؤه من دياره وسطوا على أموال المسلمين فقد أقدم على مواجهة غير متكافئة إلا من إيمان بالحق والثقة فى وعد الله بنصر أصحاب الحق.
فى تاريخنا المصرى نماذج كثيرة على التضحية من أجل الوطن فى مواجهة أعتى القوى ،فقد قامت مصر بثورة 1919م فى مواجهة الإنجليز وجيشهم المسلح بأقوى الأسلحة فى ذلك الوقت وقدمت مصر الكثير من الشهداء من خيرة أبنائها وظلت مظاهراتهم وعملياتها الفدائية رغم الثمن الباهظ التى دفعته من شبابها ونسائها وأطفالها حتى اضطر الإنجليز إلى توقيع اتفاقية الجلاء ثم الجلاء النهائى عن مصر، والأمثلة فى ذلك فوق الحصر ليس فى عالمنا العربى فقط وإنما فى العالم أجمع فتجربة فيتنام شاهدة على ما نقول. وبالتالى فالذين يحسبون تحرير الأوطان واسترداد الكرامة والعزة الوطنية بمنطق التجار لا يدركون الاختلاف بين الأمرين.